WaleedFathy

شارك على مواقع التواصل

المطر يتساقط على زجاج سيارته ، ورذاذها يهبو بين إطاراتها المتلاحقة ، يرى بصعوبة ولا يخفض سرعته ، وتسمع صوت نبضة القابض بمقعده ، ليس أمامه سوى منافس وحيد بمنعطف أخير .
وفجأة ترى اتساع الأعين من الدهشة ، وانفراج الأفواه من الصدمة ، لتشاهد كيف اصبحت سيارة مسرعة متلاصقة بالأرض لطائر ينفض محلقا فى السماء .
أما المشهد من الداخل فكان أكثر إثارة وحياة ، يترائى ببطء وبالتفصيل كما يرى من دنى عليه الموت شريط حياته أمام عيناه .
حين تتحرك مقلته السوداء إلى إطاره السابح في الهواء ، ليغلقها بسعادة تذكره بملامسته إياها قبل أن يخوض أول سباق له فى عنفوان الشباب .
يفتح عينه على ظلام دامس وعرق يغزو جنبات وجهه الشاحب ، أسند ذراعيه على مخدعه ببطء لينهض بحذر متجنبا إيقاظ زوجته الراقده بجانبه ، وعلى بضع خطوات أضاء مصباح حمامه الصغير ، ليفتح صنبور مياهها الفاتر وينشر على وجهه مياه حياته المنسيه ، ناظراً لمرآته متعجباً عن امتزاج ليل سمائها الصافى بشروق نهارها الدافى ، بين خويصلات شعره الكثيف وتجاعيد وجهه الوسيم .
جلس على كرسي ساندا ظهره رافعاً رأسه ، ينفث دخان سجائره ويرشف قهوته الساخنه الممتزجة بقليل من الحليب الدافئ ، ناظراً للفراغ لا يفكر بشئ ، حتى خطى النهار بأقدامه ودق جرس منبه بميعاده ، ليوقظ زوجته التى نهضت لتفتح الشباك لتهويه المكان بعد أن أفسدته رائحة الدخان ، ملفتة لزوجها راغبه له خير صباح ، لم يلتفت إليها ولم يجاوبها وهى لم تكترث ولم تغضب ، فهى اعتادت على سكوته وقله كلامه منذ الحادث الأليم الذي ألم به منذ سنين .
وقبل أن تهم بالخروج التفت إليها بعين مثقلة وروح مهملة محدثه إياها سائلاً : اهناك شئ آخر ستقومين به بعد انتهائك من عملك ؟ لا ... سأرجع على الفور لتحضير وجبه العشاء فاستعد لها . فأومأ بالموافقة .
تدرج سلالم منزله الخارجية المحيط بمنتزه شاسع يتوغل بين طياتها طريق ممهد كالحرير اقرب لمضمار سباق سريع ، وعلى جوانبها تتمركز أبنية يتشابه شكلها بروهة التصميم ويختلف حجمها مع حسن التخطيط ، يتدرج بين هيكلها أدراج متصاعدة مغروس بداخلها كراسى ثابتة.

استعد لمزاولة مهام عمله بتفقد العاملين والاطلاع على إنجاز ما يوكل لهم , فهو يمارس وظيفته كمدير بجدية وحزم بعد أن وكل بمهامها , كان معظم العاملين ينادونه بالرئيس أما الباقين التى تربطه بهم الزمالة من أجل بعيد فيحيوه بأليكس وهو اختصار لألكساندر .
وعند انتصاف النهار والظل فى مرحلة استرخاء وسكون , تجمع العاملين داخل المطعم لتناول وجبة خفيفة تنقلهم من مرحلة الجوع الرتيب لمرحلة الشبع الحميد , الجميع مسرورون يأكلون ويتحدثون داخل مجموعات متلاصقة , أما هو فيجلس منعزلاً بين القطيع يتحرك وحيداً ويفكر شريداً بين دروب عالمه المجهول , كثيراً ما يتحدثون فيما بينهم عن انطوائه وعدم اختلاطه بهم , ورغم ذلك فهم يقدرون مشاعره ويشفقون عليه بسبب ما حدث له الماضى .
رجع إلى الكرافان الساكن به من زمان , فاندهش بوجود زوجته فى هذا الميعاد , فهو لم يعتاد على تبكيرها بالرجوع فسألها عن السر !!! فأجابته وهى تطهى الطعام أنها استأذنت من رب عملها على الرجوع باكراً لخدمه زوجها , فابتسم قائلاً بسخرية وهو يبدل ملابسه : اعتقد أنه لن يقدم الطلبات بدلاً منك حتى موعد انتهاء عملك , لم تجاوبه فهى اعتادت على هذا الإسلوب وتعلم أن الوقت غير مناسب للمعاتبة أو المجادلة فى وقت لا يمكن أن تترك همومه واحزانه تملكه وتنتصر عليه , فهى تعلم أنها الوحيدة القادرة على احتوائه وكبح جماحه .
وعلى هذا المنوال رجعت بذاكرتها للوراء خمسة عشر عام , حين دخل عليها شاب فى منتصف العقد الثالث بملابس مهندمة وحالة يرثى لها , فهو يرتدى أفخر الملابس والماركات بموضة السبعينات , يظهر بعين غائر ووجه شاحب طليق اللحية والشارب , أخذ كرسى على البار وطلب نبيذ فى وضح النهار , يتجرع الكأس تلو الآخر حتى فقد الوعى , استيقظ من نومه مدهوش ليرى أمامه وجه بشوش , أخذ الوقت الكافى ليسترجع ما أحل به ولكنه لم يتذكر شئ , إلا أن رأسه دارت وعينه زاغت فى احلامه الطائشة التى لم يكتب لها أن تكتمل , إلى أن ذهب فى سبات عميق اقرب إلى غيبوبة مريض .
وسأل متعجباً بفضول وهو يرشف قهوته لينشط بها ذاكرته ... ماذا حدث ؟
ابتسمت النادلة الصغيرة التى اقترب عمرها من العشرين , مجيبة بخجل :
أنك أفرط كثيراً فى الشراب حتى خارت قواك , فحملناك إلى شقتى المتواضعة لتسترح فيها .
نظر إليها وسألها عن إسمها فأجابته (انجلينا) , فابتسم لها شاكراً على حسن استضافته وقبول رعايته , واردف قائلاً : لكن احذري من فعل هذا السلوك مع كل غريب .
هذه ليست عاداتى أن استضيف الغرباء , ولكن عندما رأيتك عرفتك رغم إختلاف هيئتك وطول لحيتك , فالمعجبين بالابطال ينتظرون الاخبار .
تنهد الكساندر قائلاً : اخبارى انقطعت منذ زمن , ولم يصيبنى إلا الوهن .
أجابته قائلة : الذهب لا يعرف الصدأ .
ابتسم قائلاً : عندما تتزين به النساء يتوهج بريقه , أما عندما يحتفظ به فى الصناديق يخبو سطوعه , الآن أنا شخص منسى عند الجميع , قد اكون ذكرى جميلة عند البعض , ولكن فى النهاية تكون نعمة النسيان مفيدة للجميع , للأصدقاء الانتهازيين والأقارب الماديين ولى أنا أيضاً حتى بالمعجبين .
اقتطب وجهها مندهشة عندما ذكر قول المعجبين , الذى لولاهم لما اصبح بطل يشار له بالبنان ويتكلم عنه كل لسان , وسألته مستفسرة عن ذلك !!!
فحدثها قائلاً : بالطبع لا شك أنهم روح أى لعبة وقلبها النابض , ولكنهم فى النهاية بشر يملون ويتعبون من مؤازرة الفاشل ومساندة الضعيف , ومنبع تشجيعهم هو اللذة والاثارة , فإذا نقصت أو تلاشت بذلوا لها ما يستطاع للبحث عنها وإيجاد ما يحركها .
نظرت إليه مشفقة وكأنها تتحدث إلى رجل كهل قد هلكته التجارب وضاقت به الايام , ولم ترد أن تجاريه فى هذا الحديث , بعد أن أحست بمرارة ما يشعر وكآبة ما يرسل .
سحبت يدها الممسكة بمعلقة التقليب إلى الوراء , بعد أن لسعتها شرذة من الماء المغلى الذى يلهو فى الوعاء , لتعيدها مرة أخرى من ذكريات الماضى الجميل عبر طيات الزمن السريع , مستقراً على أرضية الحاضر المادية , ليكشف لهما جهازهم المرئى عن اعلان هام سحبهم للعنان .
0 تصويتات

اترك تعليق

التعليقات

اكتب وانشر كتبك ورواياتك الأصلية الأن ، من هنا.