ارتدى نظارته السوداء وهو يشعل محرك سيارته متجهاً لحل لغز لم يتمكن من تفسيره , فالمكالمة التى ارهقت تفكيره وبدا منها متوتراً فاقد تركيزه مع آخر شخص توقع مهاتفته ويسعى لقاءه , أشعرته بالضغط كما يضغط على دواسة الوقود لتزداد وتيرتها بسرعات متصاعدة لا يمكن إيقافها إلا عند وصوله لمبتغاه وبداية مسعاه .
جلس بضع دقائق يستعيد أنفاسه , بعد أن غاصت فى خضم احلامه وشرود افكاره , يتسائل عن اضطرابه وما خفق باعضائه وألم بروحه ووجدانه , فلم يجد لها إجابة تريح باله وتهدأ حاله .
وهو فى هذه الحالة من عدم الاتزان , والنظر لاعلى وفى الاركان , علق ناظره بكلمات تسبح فى الهواء , تهرب وتتباعد كلما اقترب لفك شفراتها أو اللحاق والامساك بها .
استرجل من العربة بخطا غير ثابتة ونظرات حذرة ثاقبة , لداخل مطعم شعر من هدوئه بانقباض اساريره , دارت مقلتيه ارجاء المكان إلى أن عثر على شخص يجلس وحيداً منزوياً فى زاوية من زواياه , يغطى نصف وجهه بنظارة سوداء مرتدياً بذلة زرقاء وشعر كثيف ينسدل من وراء الاكتاف , ليرسل ومضة لامرأة مجهولة تعطى طابع من الغموض وأنفة من الكبرياء .
وقفت السيدة عندما اقترب منها ومدت يدها لمصافحته فصافحها ملقية الترحاب .. فرحب وجلسا.
ها أنا هنا ... ماذا تريدين ؟ قالها اليكس والادريادين يرتفع من جسمه كالحمى .
اهكذا تعامل النساء ؟ قالتها المجهولة بدهاء .
انت لست كبقية النساء .
انظر إلى بعقلك وليس بقلبك .
هل تعلمين ما يكنه قلبى ويدور بعقلى ؟ سألها لنفسه ناظراً إليها راغباً كشف وجهها , واستطرد قائلاً : أريد أن أرى الوجه الذى احببته اكثر من نفسى وبغضته ... , ولكنه لم يقدر على حساب النسبة , فعلم أن مقدار حبه لها سابقاً يفوق كرهه لها حالياً , فظهرت أول كلمة تجلى من العدم ولم تهرب أو تبتعد بل اقتربت أكثر إلى أن وضحت واصبحت كالبدر تمام القمر ألا وهى (خيانة) واستطرد : اتكون هذه الكلمة فعلاً موضع الحدث وإلا لما نرتدى نظارات نشكك بانفسنا ونصبح ريبة لنا نحن فاعلين .
ليس لدى الوقت لهذه المهاترات , ادخلى فى صلب الموضوع .
انحنى رأسها لاسفل وتحدثت متثاقلة : أريد مساعدتك !!
واستطردت بعد لحظة صمت طويلة لم يجب لها عن سؤالها : تعرف ابنتى كارا , لديها مشكلة وانت الوحيد القادر على حلها ومساعدتها .
تحركت نظارته لاسفل محدثها قائلاً باستغراب : أنا ... لماذا ؟
تحدثت بصوت مضطرب : كارا على علاقة بشخص ... سائق محترف وانا لا أؤيد هذه العلاقة ولا اريدها أن تتطور .
وما علاقتى بالموضوع ؟
انت اكثر شخص مرتبط به كارا , انت لا تعلم كيف أثرت عليها بعد مقابلتك لها .
وما رأى والدها ؟
مثلى ... معارض بشدة , ولكنه دللها من صغرها واعطاها الحرية فاصبحت صاحبة قرار .
اتلومونها على حريتها وشخصيتها القوية أم على اختيارها ؟
لا تعقد على الأمور ...
أريد أن اعرف كى اساعدك ... ما السبب وراء ذلك الاختلاف ؟
تحدثت بصوت مبحوح : انا السبب ... لا اريدها أن تعيش تجربتى , أن ترتبط بشخص ...
لا مستقبل له ... قالها بصوت ضعيق حزين , وعندها رأى طيف فى الهواء اقترب منه أكثر فأكثر حتى تعالى واكتمل لتحول إلى (مأساة) , مأساة عندما دق قلبى لأمنحك حبى , مأساة عندما ارتدت خاتمى الذهبى من يد من خان وغدر , مأساة حينما يراد منى أن انسى ما سبق .
آسفة لقول ذلك , ولكننى لا أريدها أن تترمل وهى فى زهرة شبابها تدبل أوراقها قبل أوانها .
تتحدثين بحرقة كأنك تتكلمين عن نفسك وليس عن غيرك .
غيرى هو أنا , ابنتى كل حياتى فلا تفصلها عنى .
ولكنها لها وجهه نظر أخرى , اليس من المحتمل أن تكون على صواب وأنت المخطأ .
لا احتمال عن قرار اتخذ ولابد أن يُفْعل .
إذن بالتوفيق ...
اعذرنى على انفعالى واندفاعى , فأنت الشخص الوحيد القادر على حل هذه الأزمة .
كيف ؟ وانا مأساتك التى عشتيها ولم تنسيها .
بالفعل لم انساك ... قالتها لنفسها ثم تحدثت : ارجوك لا تفتح باب اغلق من وقت بعيد ولا اريد التحدث فيه .
طالما كنت قوية تقدمين عقلك قبل قلبك , ولكنك الآن اضعف أن تواجهين نفسك قبل ابنتك , انت صنعتين شبحاً ظل يطاردك طوال حياتك ولم تستطيعين أن تواجهيه أو تطرديه , اتعلمين ما هو هذا الشبح ؟ الأمان ... نعم الأمان لم تشعرى به وطالما بحثت عنه , كالباحث عن الماء وسط الصحراء وعندما يصل إليه يصبح سراب لا وجود له .
أخذ انفاسه بهدوء بعد أن اصبحت تتصارع من قوة الحديث الذى نفث به عن كبته واستكمل : انا لا الومك على فكرة أو عقيدة رسخت وتشعبت باوصالك , فلك الحرية طالما لن تضر بها الآخرين .
فسدت النصائح ممن كان الخصم والحكم , فالخصم خصم وإن كان ذى حق والحكم عدل وإن كان ذو نسب .
لا خصام بيننا فالقاضى قد حكم .
لا اقصد الخصام ولكن نحن نتجادل حتى وصلنا لطريق مسدود , انا اطلب المساعدة وانت تضع العواقب والمصاعب لتنتحى عن المقاصد .
ولكنك حتى الآن لم تقنعينى بأنى المختار , فلكم اصدقاء ومعارف وأقارب وانا لم اظهر إلا مرة واحدة فقط , فكيف لك تحولين الصدفة إلى قدر ؟
لإنها إبنتك ...
انتصبت ظهره على كرسيه وبرقت عيناه ناظراً إليها يفكر فيما قالته , اصحيح ما سمعه ... هل يصدقها ؟ أم أنها تلعب بمشاعره كما حدث سابقاً وتريد أن يساعدها بهذا الأسلوب , وبدأ يحدث نفسه وهو يفيق تدريجياً من صدمة ما سمعه , متقلب المشاعر بين نشوة السعادة وجمود الكآبة قائلاً : احقاً لدى فتاة .. طفلاً من صلبى .. حياة .. حياة جديدة اتشوق لمعايشتها ارجو مآنستها , بين عشية وضحاها اصبحت أب , يالها من كلمة تفرز كل معانى الإنسانية , وبعد هذا الاحساس الصافى الندى يمكن أن يعكر صفوه كذب المحدث وما يبطنه , فآثر الهدوء والتروى حتى لا يقع فريسة لشهوة غابت عن تفكيره , وسألها وهو مذبذب المشاعر مضطرب التفكير عن كيفية حدوث هذا الأمر ؟
كنا قد قررنا الانفصال وعلمت بما ينبض بأحشائى .
ولم تخبرينى !!
فعلت ما هو الافضل لك ولها , كان الوضع مذرى فأردت حياة أخرى غير ما أردتها .
اليس من الظلم أن تمنعى أب عن ابنته طوال هذه السنوات , كان من الممكن أن يتغير كل شئ.
وإن لم يحدث ... كنت ستسحب شخص آخر إلى القاع , قاع مكبل بالاغلال لم يستطع معها النجاة .
وانت من حررتيه بهروبك وتركك لى .
لم اتحدث ثانية عما سبق , ولكن اعلم أنها نشأت فى بيئة كنت تتمناها لها , اصبحت فتاة ناضجة تفتخر بها .
ابتسم ابتسامة سخرية قائلاً : يا للشيطان ... تركتى ألد اعدائى يقوم بتربية طفلى , شاركنى زوجتى وابنتى , اخشى عندما أموت يتقاسم ثروتى , واستطرد : وهل كان يعلم بالأمر ؟ أم خدعتيه واخفيتيه عليه كما فعلت معى .
كان يعلم بكل شئ , اخبرتة ولم اخفى عنه شئ , ولم يبخل عليها بمال أو جهد , جعلها مثل ابنته.
ولكنها ليست من صلبه , لن يشعر بوخذة الألم التى انغرست فى صدرى , ولم احددها اكانت من صدمة الفرح أم من طول فترة الكتمان .
سكت برهة ليستعد انفاسه وتسترخى اعصابه ثم استطرد بصوت يبدو هادئاً مائلاً للاتزان ولكن ما بداخله غير ما يظهره من توتر وغليان قائلاً : مضى وقت طويل وانتم تخفون سركم , ألم تتحدثان يوماً على إفشائه ومصارحة انفسكم قبل مصارحتنا .
هذا الوقت كان سيأتى , وها هو أتى ولكنى لى طلب ورجاء , سكت اليكس لتكمل ما تسرده : الطلب أن لا أحد سوانا يعلم بهذا الأمر , أما الرجاء أن تتروى قبل اخبارها .
اكفهر وجهه حنقاً واحمرت أذناه غيظاً وتحدث وهو ينفث غضباً : سأفعل ما أراه الافضل لنا .
وفى هذه اللحظة من سكرات الغضب التى تذهب الوعى ظهرت جمرة على هيئة حروف يحيطها اللهب تزداد توهجاً كلما اقتربت حتى تحجرت , وبدأت حروفها تتلاصق لتشكل كلمة من جحيم ليبدأ "الانتقام" .