ضغط على يديها بقوة , وهو يتحسس بخطاه أول درجات السلالم الرخامية لأشهر فنادق ميلانو الإيطالية , دخلاها مبهوران بفخامة المكان وحسن التصميم والعمران , بالرغم أنها ليست الأولى له أن يستضيف فى تلك الاماكن , لكن التجربة الفريدة بعد زمن من الاختفاء والبعد عن الاضواء , جعلته يهيب الموقف بشئ من الاحترام , كأنه على ابواب قيصر يخشاه العوام ويخضع بين يديه الحكام .
جلسا صامتان يتأملان الاضواء الزاهية وهى تتناثر على المدعويين كغبار الجنيات فى القصص والحكايت , لتخفت الاضواء فجأة , ويسطع فى وسط مسرح القاعة ضوء باهر موجه كاشفاً عن شخصية هامة بملابسه الأنيقة وابتسامته الجريئة , محتفياً بالمدعويين داعياً لهم بالتوفيق والتمتع بأجواء الحفلة , وذلك بعد ذكر اسمه وصفته , التى جعلت الكساندر ينتفض فجأة , كمن لدغه عقرب سام وسط الرمال , لم يتوقع أن يراه بعد هذه السنين الطوال لينقلب حاله إلى حال .
لاحظت انجلينا التغيير المفاجأ الذى طرأ على وجه زوجها , بعد رؤيته لمقدم الحفل , فسألته عن معرفته إياه ... فلم يجيبها وظل صامتاً , إلى أن انهى حديثه بدعوة المتسابقين فى اليوم التالى إلى قاعة الاجتماعات لشرح وتعريف قواعد المسابقة .
غادر هو وزوجته الحفل , بعد تحول شعوره من حالة النشوة إلى حالة الصدمة , لتجعله يفقد توازنه لاتخاذ أى قرار , فاراد الانسحاب لتهدئة نفسه أمام هذا الصدام الغير محال .
بدلا ملابسهما بهدوء , لم ترد أن تبدأ بالحديث أو ازعاجه , فوجهه المكشوف يعبر عن ما يخبئ قلبه المكنون من حالة السرحان وعدم الاتزان , كأنه اخترق بروحه الزمان بقلب خاو قابع فى المكان .
اعتدل على فراشه سانداً ظهره بوسادة , وبدون أى مقدمات تحدث قائلاً : كان دوماً صديقى ووكيل اعمالى , لم نفترق أبداً بجوارى دائماً نفرح معاً نحزن سوياً , إلى أن اغمض عينى للمجول بعد الحادث المشئوم , لتضئ على بشاعة النفوس وبؤس القلوب , لرؤية مصالحها تنهار دون سابق انذار , ليقطع رابط الاخوة ويشيد بناء من العداء .
سمعت شكواه وهى راقدة تحت الفراش , تحاول أن تصغى بحرص لكلمات قلما تخرج من شخص نادر الكلام , عن اسرار ماضيه المجهول المفعم بذكريات تشفق عليه من خوضها لما يبدى تأثيرها السيء على نفسيته المتضطربة لمستقبل ينبت بين اشواك ماضى لم يلتئم جرحه .
ارادت أن تتحدث لتواسيه , ولكن عندما ينبش الانسان عن ماضيه الحزين فلا العقل يتقبل الجدال ولا القلب سيقبع خلف اجنحة السدال , لذلك فضلت الصمت ليرمى همومه المتراكمة منذ زمن , ويتخلص من ثقل قابع على صدره طالما اراد أن يزيحه , وها قد حان الوقت بمواجة مرتقبة افضل من أن يقبع داخل حاضر لا مستقبل له .
انتبه إلى حضور صمتها , وعلم انها تريد منه أن يخرج كل ما فى جوفه من اسرار ليزيح لها الستار عن فصول مسرحه الكبير المنسى من سنين .
واردف قائلاً بعد لحظة صمت ثقيلة : الجميع اهملنى , تركونى مع اليأس صديق والكأس رفيق , اتهاوى كما تتهاوى ورقة شجرة عتيقة سقطت من غضن مرتفع , تترنح فى الهواء يقذفها الريح كيف يشاء , حتى مع من كنت اعتقد أنه تقاسم روحى وعاهدنى على الوفاء فى الشدائد والمسرات , قد نزع منى والتصق برفيق الدرب وعدو الازمات , الآن وقد اعطانى الأمل قبلة الحياة من جديد لحلم ليس بالبعيد , أن تشاركنى الأنا الشخصية لذاتى التى لو انطفأت لما اكملت حياتى , فلكل إنسان حلم جميل يسعى وراءه ويخاف بلوغه , ومن يصر على منتهاه يسخر له القدر مناه .
وضع يده على فمها عندما شرعت فى الكلام وقال لها : لا اريدك أن تتحدثين الآن , فشعور جميل يغمرنى ويثلج صدرى , لا اريده أن يتغير أو يتبدل , ارغب بالبقاء معه يعتصرنى اتوغل بداخله لنصبح معاً كتلة واحدة يصعب فصلها , والآن ساستسلم للنوم دون مقاومة تجهدنى أو تؤرق النعاس من جفنى .
اجلس الآن بين الهواة كانى واحد منهم بل بالفعل أنا منهم , كنت بالأمس شخص والآن شخص آخر , انتظر مثلهم بترقب مجبراً أن اسمع نقاشاتهم المملة وتعليقاتهم السخيفة , لم أكن مثلهم يوماً كأنى ولدت محترفاً واكتشطت هذه المرحلة من حياتى , لكنها تعود للظهور بمنظور جديد بثقل ليس بالسعيد .
أرى وجوههم المتغربلة بين القلق والسعادة , لدخولهم عالم مجهول مكنوز بالاسرار , فئة قليلة ستكمل المشوار , أما البقية ستفيق على الواقع الغدار .
عاود فتى يافع صغير السن ترى على ملامحه وهيئته الترف والغنى سؤاله لى مرة أخرى , بعد أن تجاهلته لعدم يقينى بمشاركته الحوار , فلم يكن لدى أى إحساس لتمضية وقت فى كلام غير فعال .
أترى ما هى القواعد التى سيتم طرحها ؟ سأل الفتى
ليس مهم أن تعرف القواعد , المهم أن تطبقها بشكل ممتاز , ومن الممكن أن تكسر قاعدة أو اثنين دون أن تلفت الانتباه أو تقع بالمتاعب (قالها بصوت ضعيف غير مسموع للآخرين) .
نظر إليه الفتى باندهاش وقال : أرى انك متدرب خبير , فشعرك الأبيض المتدلى من رأسك وشاربك ولحيتك تخبرنى بشئ غير مفهوم .
لم ينظر إليه أو ينبس بأى كلمة , فعاود الفتى حديثه وسأله عن نوع السيارة التى يقودها ؟
سيارتى ليس لها نوع محدد , فعجلاتها مصنوعة من الثبات , وتحكمها من الدقة , ومحركها من القوة , وقوامها من الصلابة .
رجل مخبول ... قالها الفتى بصوت ضعيف سمعه الكساندر وابتسم ابتسامة عدم اكتراث , واردف الكساندر قائلاً : لا تجعل المظاهر تخدعك أو تصنع لك عقداً يشتد عليك ويضيق بمرور الزمن .
ماذا تعنى ؟
لا أعنى شيئاً , ولا تأخذ حديثنا على محمل الجد أو الهزل فهى بين تلك وذاك , فالحياة يا رفيقى درب من دروب التجارب , فتمتع بها وإن آلمتك النتائج .
بدأ الاجتماع فى مكان مغلق اشبه بقاعة محاضرات , اصطف المتسابقون على مقاعدهم يترقبون ما سيفسر عنه هذا الإجتماع من قرارات , تتدلى عيونهم نحو منضدة خشبية تعلو مدرج صغير يقبع بوسطها رئيس إتحاد سباقات الفورميلاون , وعلى يمينه راعى السباق وهو من رجال الأعمال المعروفين , وعلى يساره "البرتو" نائب اتحاد اللعبة والمتحدث الرسمى لها صديق الكساندر فى زهو شهرته وعدوه فى خضم محنته .
جلس البرتو متكئاً على مقعده ينظر بعينيه الخضراوتين الضيقتين نحو المتسابقين , يدور بمقلتيه فى انحاء القاعة يفرزهم كالباحث عن هدف , إلى أن وقعت عيناه اتجاه رجل فى نهاية فترة الشباب وبداية سن اليأس , ترى فى عينيه الزرقاء صفاء السماء وهياج موج متلاطم فى وهج الشتاء , ظلا فترة من الوقت تتصارع فيها العيون بدون دماء أو خدش يجرح الحياء , إلى أن افاق من غيبته بابتسامة تائهة , اقبلها مديح وثناء لرئيسه وراعى المسابقة ثم اردف قائلاً : الجميع هنا له طموح يسعى لتحقيقها وآمال يهدف لانجازها , ونحن نمد إليك يد العون فاغتنمها ولا تفلت يدك منها , فمن الممكن أن لا تجد فرصة غيرها فتندم على عدم اقتناصها , وكما يقولون : الفرص السانحة مثل شروق الشمس إن انتظرت طويلاً فإنك غالباً ما تفقدها .
وإليكم الآن ماهية المسابقة :
لف فردى (تجارب) لتحديد أوائل المنطلقين .
52 متسابق يتم تقسيمهم إلى سباقين كل سباق 26 متسابق يخرج نصفهم .
السباق النهائى 26 متسابق يتأهل الثلاثة الاوائل .
وسيتم توزيع ورقة لكل متسابق للتعرف على قواعد السباق الذى سينطلق يومى الجمعة والسبت بالتجارب التأهيلية وصولاً إلى يوم إقامته الأحد بالمسار الفرعى لحلبة مونزا .
وبعد أن تعرفتوا على المسابقة اتمنى من كل قلبى التوفيق للجميع شاب كان أو كهل , التفت الجميع إلى الكساندر بابتسامة ساخرة , لم يلتفت إليهم ولم يهتم بهم لأنه ببساطة كان محدقاً إلى المتحدث بنظرات حارقة اشعلت الجمر الكامن بقلبه منذ الايام الحالكة .