مع احتراق الوقود والانطلاق لأقصى حدود , بدأ الاعلان وكأنه يناجى كل مغامر متحفز لإلتقاط فرصته , فالجميع يحلم أن تكون هى بدايته , مع الشهرة بالاضواء الساطعة من النجوم على هذا الكوكب المعتوم , الذى سيضئ بهالات من الانوار الزاهية والفتيات الباهية , التى ستحيطه أينما كان بالحسن والجمال .
اضطراب عنيف خفق له بشدة قلب كلا الزوجين , جعلهما هائمين بشرود بعيد عن المألوف , سبحا خلالهما مع التيار الباثق من أيونات الشاشة الصغيرة عبر أثير موجات مختلفة المسار , رجع بها لايام البطولات والارتقاء فوق الاعناق , جعلته يشعر بنشوة حب الذات والتمتع بالملذات , التى تضرب النجوم فوق أعلى السماوات .
احساس صعب عندما تشعر بفقدان شئ وهو بين يديك , والاصعب بل الاغرب بأن تفكر به قبل حدوثه , فالاول يعطيك احساس بالواقع المرير , والثانى يعطيك احساس بالاستسلام المهين , وهذا ما تشعر به وهو عدم قدرتها على فعل شئ لأنه ببساطة لم يبدأ بعد .
أخذ توترها يزداد وهى ترى مدى اهتمام رواد المكان بالصحف والمجلات , يتهامسون فيما بينهم عن أمر هذه المسابقة الغريبة , التى ستحدث لأول مرة بهذا الشكل والاسلوب , فالجميع متاح له أن يتنافس بشرط تحصيل مبلغ من المال ليس بالقليل كرسوم , وأن تكون لديه السيارة المؤهلة لهذا السباق , وهذا ما جعل قلقها يهدأ واعصابها تبرد لمعرفة ظروف حياته مع زوجها , إذا كان يفكر فى هذا العرض المغرى بالنسبة لشخص يعتبرها جزء ممتع من حياته فقد الاتصال به , والآن هو من يتقرب إليه ويناجيه بالرغم من القطيعة التى دامت لسنين إلا العشرة لها حنين.
أما عن الوجه الآخر فى هذه المعادلة , فيسودها الشحوب والإحباط بعد أن شعر بشعاع الأمل يعزف على وتر قلبه لحن الماضى الحزين , يتلاشى كذبد البحر على شواطئ الحالمين .
وهذا ما شعر به زملائه القدامى لعلمهم بشغفه وولعه بهذه الرياضة التى كادت أن تنهى حياته , ولكن قلب الابطال يتحمل ضغط الاحمال .
فاتفقوا فيما بينهم أن يصنعوا له سيارة فى الورشة المخصصة للصيانة فلديهم ما يلزم لذلك , ولكن يتبقى مشكله دفع مبلغ الرسوم للاشتراك الذى لا يقدر عليه غير متيسر الحال .
انقضت المهلة بحسرة وحزن , انقبض لها قلبه المفعم بالشباب بآمال كتب لها أن تنطوى على صفحات كتاب الاحلام المفعم بالخيال .
الجو مشبع برائحة الخبز المحمص الذى يعطيك إحساس بالدفء والجوع , إلا أنه ركن إلى جنب هادئ من المطعم للاسترخاء طلب معها جعة ساخنة وبعض المقبلات , أتت به زوجته ومعها كأس إضافى جعلت تسكب لهما محدثاً إياه بوجه بشوش مشرق للحياة : مالى أراك مهموماً مشغول البال ؟
نظر إليها فى حيرة من أمرها , فهو يعلم إنها الوحيدة المتحفظة لحدوث هذا الأمر دون التفوه بأى كلمة , ولكن كلمات العيون تفضح المضمون , تحدث إليها بصوت مثقل جار معه اليأس والهزيمة قائلاً : لقد انقضت المهلة ولم اتمكن من دفع الرسوم والاشتراك فى المسابقة .
عدلت من تعابير وجهها لتجعله أكثر جدية , فى موقف لا يحتمل غير الثبات والحيادية قائلة : لا تحزن على شئ مضى غير آت , فالحزن لا يرجع ما فات , وإلا كنا حزنا على الاموات .
نعم الحزن لا يرجع ما فات , ولكنها طبيعة الانسان أن يحزن لخسارة شئ أحبه , وأن يحتسى الشراب لينسى همومه واحزانه , لكى لا يفقد صوابه .
لا تفقد ثقتك بنفسك , ولا تجعل القدر يتغلب عليك , ولعل خسارة شئ فى الحاضر هو فوز وراحة فى المستقبل .
انظرى حولك وأرينى أى مستقبل تتكلمينى عنه ... مستقبلى وأنا جالس وسط العمال أراهم يتهامسون فيما بينهم حول شخصيتى المنغلقة وماضى المنسى , أم مستقبلك وأنت تعملين طوال اليوم دون شكر أو تقدير من رب عمل جشع طماع .
وضعت يدها على فمه لتجعله يضبط كلماته أو ينهيها قائلة وهى تشعر بالاحرج : أرى أن الشراب قد أثر عليك فللننهض الآن .... ابعد يديها واكمل : أم مستقبلنا معاً ونحن بلا رابط يجمعنا عندما نذبل ونشيخ .
اخذتها الصدمة بالصم عندما سمعت ما قاله , فسحبت نفسها بعيداً دون كلام أو اعذار .
خرج من المطعم يترنح بلا هدف أو سبيل يهتدى إليه , فالفاظه القاطعة جرحت بسيوفها شرايين قلبه قبل أن تذبح أوصال حبه .
مضى فى سبيله إلى اجنحة الطرقات , وعبر طيات الدروب والمزقات , يتحسس شعاع أمل بين جوانبها المظلمة ونسائمها الباردة .
دخل بيته بقلب مستكان بلا حراك , راغباً بلقاء بلا عراك , لكنه وجدها ممتدة على الفراش كنسيم البحر فى شهر آزار .
وقف بجانبها يتأملها بهدوء كمن يراها للوهلة الاولى , ببساطة جمالها ودفئ قسماتها , شاعراً بالخزى لما بدر منه لشخص طالما وقف بجانبه وسانده فى محنه المتكررة , وهو الآن يكسر جليد كبريائه ليذوب ويتساقط للتصدع وتتشقق أركان حياته , بدأ يحدث نفسه وهو يشعر بإنقباض أسارير قلبه وجوارحه , شاعراً بعليل الهواء يتدفق بين جوانبه قائلاً : يالى من أحمق مغرور , أريد كل شئ ولا أرى أى شئ , أفكر فى نفسى واتجاهل غيرى , السنا جميعاً لدينا عواطف ومشاعر نفرح ونحزن نحب ونبغض , فلماذا نكون سبباً لحزن وبغض احبابنا وهم من يشاطرون انفاسنا ؟ ... ادمعت عيناه لتسيل على وجنتيه بقطرات ساخنة تكوى بها ذلات لسانه لتطهر بها روحه الواهنة .
اطبع على جبهتها بقبلة رقيقة , قبل أن يغمس فى ثبات نوم عميق متمنياً أن يطول حتى لا يلاقى عتاب العيون .
أفاق على رائحة افطار شهية ممتزجة بنسمات زهور وردية , مما جعل نبضات قلبه تتسارع وعقله يترنح كأرجوحة تتهاوى فى حضرة دراويش بمولد أحد الصالحين .
قام ببطئ كسلان حذراً بردة فعل ليست فى الحسبان , فصبر السنين من سمات غضب الحالمين, بدأت معها شفتاه تتحرك لتقذف كلماتها المضطربة لكسر حالة الجمود كى لا يطول الجحود ... متمنياً أحلى صباح لأغلى حبيب , فلم يقع عليه الجواب وساد حالة صمت قصيرة إلا أنه قطعها بقوله : اعلم أنى اخطأت فى حقك وحق نفسى كثيراً , واشعر بالندم والخجل مما قمت به , ولكنى اعلم أن من تحملنى كل هذه السنوات لن يتركنى فى الشدائد والنزوات انجرف دون أن ينتشلنى من قاع بحر الظلمات , لم تلتف ولم تبدى أى اهتمام كأنه طيف عبر بشعاعه المكان , تركته مع نفسه غير قادر على التفكير بعد أن فاجأه التغيير المتوقع بالنسبة لظروف الحدث , والغير متوقع لشخصية الهدف , مما اصابة بإحباط بعد كثرة الرجاء , وتمنى أن لا يدوم لكى تزول الهموم .