وقف اليكس من أعلى مدرجات حلبة مونزا , يتطلع بارتباك إلى فتاته الصغيرة وهى تجلس وحيدة بين المقاعد الخالية , لا يعكر صفوها نشاذ فنان هاو أو ثرثرة فتيات بموضوع غير هام.
اقترب منها ببطئ شديد كأنه يرجو أن لا تشعر به أو يصدمها لتشعر بالمفاجأة , جلس بجانبها دون إنذار طالباً مجالستها دون اعذار , استجابة لطلبه بلا تردد بعد أن عبرت عن سعادتها لهذه المفاجأة السارة الغير متوقعة , أجابها على الفور أنه سعى لمشاهدة منافسه الوحيد فى تلك الانحاء فإذا هو يلتقى صدفة بمعجبته الحسناء , احمر وجنتيها من الخجل والاطراء الجميل من مقام كبير .
حول اليكس نظره إلى الحلبة وتحدث بدهاء : معجبة مثلى أم هناك شئ آخر !!
ابتسمت كارا لخبث السؤال لأنها تعلم إنها الوحيدة التى تؤازره فى التدريبات وتلقاه خارج الاستاد , وحاولت الرد بنفس الاسلوب الغير مباشر الذى يجعلك تفكر بتمعن قبل أن تسلك أحد الطريقين , طريق الصراحة الذى يهدى للشفافية والآخر الغموض الذى يضيف عليه الضبابية,
قائلة وفى عينيها البريئتين مكر لا يعكر صفوهما غير الغباء : إنه يذكرنى بك عندما أراه , ولكنك موجود فى تلك الأثناء فلا مجال للمقارنات .
انفرجت أساريره من ذكائها وردة فعلها فى أول لقاء يجمعهما سوياً بمفردهما دون وسيط أو اصحاب يخطفون الالباب , فما عليه إلا أن يستغل هذه الاوقات القصيرة افضل استغلال بمجاراتها وضمها إليه دون أن تشعر بالريبة اتجاه أب حديث المشاعر غائر الافكار مشتت الانتباه يجمع قواه المبعثرة , فتارة يهديه سبيله لملكها واحكام زمامها إلى الشعر الابيض الذى يزين حكمته ووقاره , وتارة أخرى لنشاطه ورجوع شبابه .
شكرها على الاطراء الجميل الذى لم يسمعه من زمن بعيد واستطرد قائلاً : لكل زمن رجاله فالراية تسلم ولا يحتفظ بها وفى رأيي أنه المستقبل .
انشرح صدرها بعد الاطراء لحبيبها , ولكنها أرادت أن تحتفظ بغموضها وأن تجدد لعبة الذكاء بينهما , فاستطردت وهى سعيدة بالشد والجذب الذى دار وأن تستكمل الحوار قائلة : بمقدورك أن تقول هذا الكلام الآن ولكن بعد عدة سنوات ستثبت على موقفك أم سيتغير الحال واردفت : أن الاستمرار اصعب لأنه يحتاج لمجهود أكبر , وما فعلته بالتحديد هو المستحيل بعينه لذلك أنت فى نظرى أسطورة لن تتكرر .
إذن فأنتِ تخشين المجهول .
ومن لا يخشاه وهو غير معلوم .
من يسعى لطرق بابه وفتح سردابه , هو من تجرأ .. وسعى .. وانتصر على من تعثر , واعلمى أن المعلوم محتوم ليس لنا به سبب أما المجهول ساتر غامض لن ينكشف حتى نرى فيه العجب , فلك الاختيار بين المضمون والمنشود , فالاول سهل المنال قليل الحيلة أما الآخر فصعب المراس كبير القيمة .
انشرح صدرها لهذا الحديث الذى اعطاها دفعة قوية لإكمال العلاقة التى بدأت تشعرها بالتوتر والضغط الذى يمارساه عليهما والديهما , وإن كان مفتعل أكثر من جهة الأب الذى يرائى من أجل والدتها المتذمرة بشكل مبالغ فيه , فجعلها تشعر بالاتزان والاحساس بالامان , بعد أن شعرت أن كفتها بدأت تثقل مع شخص قريب من أسرتها واصبح صديق لها .
وتحدثت كارا قائلة : أتعلم أنك تشبه أبى كثيراً .
انقبض قلبه وكاد أن يتوقف ... ولكنها أكملت : ليس فى الملامح ولكن فى الاصرار والتحدى , دائماً كان يقول لى ... ليس هناك شئ يأتى سهلاً , كنت اعتقد فى البداية إنه يتحدث عن نفسه طالما كان وما زال مذهواً بنفسه ... متفاخراً أنه بنى نفسه بنفسه لا فضل لأحد عليه , لكنى ادركت الآن أنه يحاول أن يبعث لى برسالة او بحكمة كانت تائهة عنى .
نظر اليها اليكس مبتسماً وهو يحدث نفسه قائلاً : بالطبع لا فضل لأحد عليه , لأنه يعرف كيف يستغل أقل الفرص . ثم حدثها وهو يرسم على شفتيه نفس الابتسامة الساخرة قائلاً : بالطبع هذا ما عاهدته على والدك منذ أن كان جزءاً فى فريقى , طموحاً لا ينظر إلى الأمام بل إلى الأعلى.
شعرت كارا برسالة مجهولة فى كلامه لغز جديد فهو يجيد هذا الفن من الالعاب حتى ولو لم تفك شفراتها أو تركب احجارها , فهى مستمتعة بهذا التحدى المتقارب فى النتيجة وإن كان يسبقها بخطوة صغيرة .
وفى تلك الاثناء سُمع من خلفهما انفاس تتنهد وشخص يلهث , انتظراه حتى التقط انفاسه وانتصب قوامه , ليتحول من رجل كهل جارت عليه الايام إلى شاب فتى مفعم بالاحلام .
ليحدثهما وفى عينيه نشوة السعادة لرؤية بطله المقدام ومثله الاعلى الهمام أمامه ينظر إليه ويجاريه فى الكلام قائلاً : من حسن حظى أن التقى بك اليوم وفى هذا المكان .
اندهشا كلاً من اليكس وكارا لسماع هذا الكلام فسأله اليكس عن تفسيره فحدثهما الشاب بأنه اليوم عيد ميلاد كارا وأن هذا المكان هو نفس المكان الذى ترعرع به منافسه فى الميدان .
تعجب اليكس من الحال الذى لم يبقى على حاله , فكل شئ يتغير من حوله بداية من هو نفسه , فلم تعد أرضه قاحلة جافة كما كانت من قبل منذ زمن بعيد مشققة لم تجد من يرويها أو تطلب ساقيها , فجفاء النفس وخشونته طبع بغلاظة قلبه وقسوته , فتحجر لبها وتصدع عودها واصفر ورقها , إلى أن رأى نبتة صغيرة تنمو بين اطراف جذعها تستمد قوتها من ضعفها , فأضاءت حبته الكامنة فى جوفه الساكنة بشعاع أمل أن ينمو فى جذرها ما يخرج من صلبها .
نظر إليها متمنياً أن يأخذها من يديها ويضمها إليه ويكشف لها عن هويته وما جرى عليه , ولكنه ايقن أنه ليس هذا وقته ولا مكانه , فتمنى لها الصحة والسعادة وبلوغ أمانيها .
ردت عليه وعلى وجهها إمارات الرضا والاستحسان بأن أحد أمانيها أن تتزين حفلتها وهو فيها .
رد عليها بعفوية أنه يشرفه حضور حفلها , ولكنه لا يريد أن يحضر المتاعب معه أو يكون سبب من نفور أحد .
لم تدرك كارا مغزى إجابته ولكنها اصرت عليه بحجة أنه أول طلب تطلبه ولا يجوز له أن يرفضه , فهز رأسه موافقاً واعداً إياها بالمجئ , ثم ادار وجهه للشاب الذى كان واقفاً يسمع باهتمام قائلاً وهو يهم بالوقوف : سنلتقى فى الحفلة كزملاء ولكن لا تنتظر منى الكثير فى هذا الميدان .
ابتسم الشاب قائلاً : كنت سأهتم بك بحكم سنك ولكن لك منى ما تريد ويزيد .