كان كل شيء ساكنًا قبل العاصفة. في قلب المدينة، حيث اعتادت الأبراج أن تلمع بسطوة الأغنياء، كان هناك ظلامٌ خافت، ينتظر من يشعل فيه شرارة. داخل أعماقنا، نحن الورثة، لم نعد مجرد اثنين يشتركان في الجسد… بل أصبحنا واحدًا، بعقلين، وروحين، يحملان عبء ماضٍ لم يصنعاه، لكنه يلاحقهما كظلٍ لا يزول.
زين كان لا يزال المسيطر على قراراتنا. خططه دقيقة، عقله يعمل كآلة لا ترحم. أما أنكوس… فكان النبض الإنساني. الضمير الذي يوقف الخطوة الأخيرة إن شعر أنها ستدوس قلبًا بريئًا.
قال زين ذات ليلة، بينما كنّا ننظر إلى خريطة المدينة:
“إن أردنا التغيير، علينا أولًا أن نُسقط من في الأعلى. لا يوجد إصلاح في نظام أساسه التعفن.”
فرد أنكوس من داخلنا، صوته لا يُسمع من الخارج، لكنه يهزنا من الداخل:
“وإن أصبحنا نحن العفن؟”
صمت طويل. ثم ابتسم زين بسخرية:
“لن يحدث، لأنني أملكك داخلي. حتى لو سقطت، سترفعني. وإن ضعفت، ستلومني.”
“وإن اختفيت؟”
“حينها سأختفي أنا الآخر.”
⸻
أسسنا المنظمة. أسميناها الورثة. لم تكن مجرد مجموعة مقاومة… بل أمل. أمل في أن هناك نورًا، حتى إن لم نره بعد. وكان شعارنا:
“هناك من يحمل الشعلة بعدك، هناك من يريدك أن تستمر.”
التحق بنا من نجا من المجازر السابقة، ومن تألم من النظام الجديد. علي، بوجهٍ متعب، وعينٍ لا تنام، عاد رغم اختفائه لسنين. سارة، صلبة، وباردة كالجليد، ولكن في عينيها نارٌ لا تخمد. عمر لم يعد ذلك الشاب البريء… بل أصبح ذئبًا يتقن التخفي بين الخراف.
ماركوس؟ لم نره إلا نادرًا. وقد عرفنا لاحقًا أنه كان في صراعٍ داخلي. ظل يبكي على عمار ثلاث ليالٍ، حتى تجمّدت دموعه على وسادته. وعندما استيقظ، لم يبكِ بعدها أبدًا. بل أقسم أن لا يترك الكوابيس تعود.
⸻
ثم بدأت عملياتنا.
اغتيالات لرموز الفساد. نشر أسرار النظام للعامة. إشعال التظاهرات.
نجحنا، لكن في كل نجاح… كنا نخسر شيئًا.
مشاعر. أرواح. ثقة.
كانت في كل خطوةٍ، لحظات جدال داخلي بين زين وأنكوس.
زين يقول:
“الخداع والذكاء هي الطريقة الوحيدة للبقاء.”
وأنكوس يرد:
“لكننا لا نريد البقاء فقط، بل أن نعيش بكرامة.”
وفي أحد الأيام، وبعد سلسلة من الانتصارات، صرّح مجلس الحكم الجديد بقرار دموي:
“كل من يُشتبه في انتمائه للورثة… يُنفى، أو يُعدَم.”
فقدنا الكثير وقتها. قُتل علي في اشتباك على حدود أنوس.
واختفى عمر في أحد الأنفاق ولم يُعثر له على أثر.
أما سارة، فاستُهدفت بتهمة الخيانة، لكنها نجت، وغيّرت هويتها.
⸻
لم نستطع الاستمرار.
المنظمة جمدت نشاطها.
بدأنا نبحث. نبحث عن شيء ما… إجابة… مخرج.
ثم جاءت الليلة. الليلة التي كانت كل شيء.
شُبّهت السماء كما لو أنها تمزقت، وسُمعت أصوات لا تفسير لها.
ظهر كيان غريب. شيء لا ينتمي لهذا العالم.
كأنه انعكاس مشوه لماضينا. أو امتدادٌ مريضٌ لمستقبلنا.
كان على صورة عمار… لكنه ليس عمار.
قال زين في داخلي:
“هذا ليس أبي. ولا عدوي. هذا… أنا إن فشلت.”
ورد أنكوس:
“هذا ما سيحدث إن فقدنا كل إنسانيتنا.”
قفزنا إلى المعركة الأخيرة. لم يكن صراعًا خارجيًا فقط، بل داخليًا.
كل قرار كاد أن يقسم جسدنا إلى نصفين.
ولكننا، رغم كل شيء، كنا متحدين في هدفٍ واحد: ألا يعود العالم إلى ما كان عليه.
⸻
انتصرنا. نعم. لكننا فقدنا نصفنا.
أنكوس قرر أن يختفي… ليمنح زين السيطرة الكاملة.
قال قبل أن يرحل، بصوتٍ داخلي حنون:
“زين… لا تنسَ أنك يومًا كنت نصفين، وكان النصف الآخر… رحمة.”
زين بقي. أقسم أن يُكمل المسيرة.
لكنّه لم يعد كما كان. أصبح أكثر صمتًا. أكثر حكمة. أقل غضبًا.
⸻
بُني النظام الجديد على تضحيات لا تُعد.
تم انتخاب مجلس جديد من العامة.
أُلغيت الطبقات.
وتم إحياء الذكاء كأعظم قدرة.
ولكن في النهاية، أدرك زين شيئًا:
“ما يُبنى على الرماد… قد يعود يومًا إلى نار.”
لذلك كتب، في سجلٍ لا يقرؤه أحد إلا من يستحق:
“هذا مستقبلنا… فلا تخونوه.