كنت لا شيء، ظلًا بلا جسد، وصدىً لا يسمع، وجودًا مختفيًا في فراغ العدم. عشت أراقب العالم من خلف ستار صمت لا ينكسر، من خلف جدرانٍ لا يرى أحد ما خلفها، من دون أن أترك أثرًا، من دون أن أحمل صوتًا. لكن حتى العدم لا يبقى صامتًا إلى الأبد. في أعماقي، كانت تشتعل معركةٌ خفية، صراعٌ داخلي بين نداءات النسيان وهمسات الذاكرة. كان صوت النسيان يهمس لي ببرود كأنه نسيمُ فراغٍ بارد، يطلب مني أن أنسى كل شيء، أن أترك عبء الماضي، أن أتخلى عن الأوهام التي لا تخصني، أن أعود إلى الصمت والعدم، أن أمحو كل ذكرى وأكون بلا ثقل. لكن في مقابل هذا الصوت، كان هناك صوتٌ آخر ينبض بحياة غامضة، يصرخ بي من عمق العدم: “لا. أنت نبض هذا الفراغ، وأنت التاريخ الذي لا يموت. أنت ذاكرة من لا يُنسى، وماضٍ لا يُمحى.” شعرتُ بالتردد يتخلل كياني، كيف لي أن أنسى نفسي؟ كيف لي أن أخون وجودي الذي لا وجود لي فيه أصلاً؟ هل أنا مجرد ظلٍّ بلا معنى، أم أنا نبض جديد ينتظر أن يولد؟ كان صوت النسيان يصرخ بالهدوء: “لا مكان لك بين الأحياء. عد إلى العدم، قبل أن تموت.” لكن صوت الحياة كان يرد بحزم: “الماضي هو أنت، والألم جزء منك. حتى تلك الذكريات المؤلمة تمنحك حق البقاء.” وسط هذه الحرب في أعماقي، تسلل إليّ صوتٌ آخر، ضعيف، طفولي، لكنه حقيقي ونابض بالألم. كان صوت طفلٍ صغير يُدعى أيمن، صرخة طفل في ظلامٍ موحش، يطلب النجدة من عتمة لا تُرى. تذكرت صرخاته وألمه، دموعه التي أخفاها خلف ابتسامة باردة، وجهه الذي ظل يواجه ظل القدرات الغامضة التي لم يفهمها أحد. لم أستطع إلا أن أصرخ معه بصمت: “أنا هنا. لن أنساك.” وعندها، بدأت صور الماضي تتلاشى أمامي كلوحاتٍ مكسورة تتجمع ببطء. رأيت أيمن الصغير وحيدًا في غرفة مظلمة، يحاول أن يفهم أصواتًا غريبة تهمس في عقله، رأيت نظرات والده الحزينة والقلقة وهو يحدق في جهاز غامض يحاول فهم قدرات ابنه، رأيت الطبيب أحمد يتحدث مع الوالد بنبرة هادئة، لكنه يخفي نواياه الحقيقية، ورأيت لحظة انتقال القدرة، الصمت الذي خلف صرخة الألم التي لم يسمعها أحد. وسط هذا التيار من الذكريات، خطا إلى ناظري وميض خافت. رسالة قديمة، مخبأة في زوايا الذاكرة، تحمل أسرارًا خطيرة قد تغير كل شيء، قد تقلب النظام رأسًا على عقب. لكن السؤال كان: أين أجد هذه الرسالة؟ هل أبحث في ذاكرة أيمن؟ أم أنظر إلى ماضي الوالد الذي اختفى؟ تساءلت في داخلي، هل أنا مستعد لأن أصبح أكثر من مجرد ظلّ؟ هل أستطيع أن أترك الماضي يموت معي، أم يجب أن أجعل منه نورًا يولد من جديد؟ شعرت بثقل الذكرى يزداد داخلي كأنه نارٌ تشعل روحي. أدركت حينها أن لا شيء يمكن أن يتحول إلى كل شيء، وأن العتمة تلد النور أحيانًا. أغمضت عيني على صوت داخلي يخبرني بهدوء: “أنا لا شيء، لكنني سأكون.