التوحيد والسعادة مقترنان، لا يأتي الثاني إلا بالأول{الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ}().
إذاً: تريد السعادة ومشتقاتها، تريد الأمن، تريد الحياة الطيّبة، تريد الاستقرار، تريد التمكين في الأرض، تريد الشعور بالطمأنينة، تريد الوقار، تريد ...؟!.
التوحيد: اعترافك بالله رباً؛ هو سرُّ السعادة الحقيقة, سرُّ الحياة الطيّبة, سرُّ التمتع بالحياة الهنيّة.
التوحيد يجعلك تحلّق في سماء جديدة, وفي جوِ صافٍ ونقي, وتستنشق الهواء البارد النقي, وتعيش في ارضٍ طيّبة, يجعلك تمشي في الأرض وكأنك تحلّق بأجنحة.
الملائكة عالم نوراني راقي, تسبح في السموات, وتتمتع بقدرات إلهيّة؛ لماذا؟! لأن همهم وغايتهم توحيد الربّ -جلّ جلاله-{لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ}().
الطير تسبح في جوّ السماء, وتتمتع بقدرات خاصّة؛ لأنها عرفت قيمة التوحيد{وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ }(){وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ}() .
والله! لو تملك الدنيا بأسرها, وزخارفها، ومتاعها, ولم تعرف قيمة التوحيد؛ لن تحصل على الحياة الراقية, ولن ينشرح صدرك, ولن يُنير قلبك؛ لأنك ما عرفت قيمة التوحيد.
فرعون تحت بيته الأنهارُ تجري, وفوق بيته أطراف الأشجار تدني, يجني من ثمارها, ويشمُّ روائح عطرها, والجنود أيسر بيته وأيمنه, والخدم والحشم بين يديه وتحت إمرته, ولكنّه لم يشعر بالسعادة، ولم يعرف طعم الحياة كما هي, ولم يتلذذ بالعيش, فظلّ طوال الدهر خائفاً, مرعوبا, تزعز الأمن منه, همه وتفكيره على يد من يكون قتله, قتّل الأطفال, واستحيا النساء؛ بسبب رؤيا رآها في المنام. لأنك يا فرعون ما عرفت قيمة التوحيد.
بينما في نفس الوقت موسى عاش فقيرا{رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ}() لا مال, ولا جاه، ولا زوجة، ولا أب, ولا أُمّ, ولا أولاد, ولا قصر، ولا مسكن يأوي إليه, لكنّه عرف حقيقة التوحيد في قلبه{كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ}() عرف قيمة التوحيد في أصعب الأماكن, فأتاه الله ما سأل, وشقّ له البحر بضربة عصا{اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ}() وحصل على المال, والزوجة، والمسكن.
بل وحصل على ما هو أجمل وأحلى وألذّ وأغلى وأحسن وأكبر من هذا{وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ}() أجمل ساعة لموسى، وأجمل لذّة, و...و... لا أستطيع أن أصف تلك اللحظة التي تمتع بها موسى بالكلام مع ربه -جلّ وعلا-.
كلام الربّ, كلام الواحد الأحد, يجلي الهموم, يزيل الأحزان, يشفي العلل, يشرح الصدر، يسعد القلب أيّما إسعاد{اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ}(){الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا}().
زوجة فرعون عرفت قيمة التوحيد, وقوّت العقيدة في قلبها, وهي في بيت الكفر, تركت زوجها والزوج محبوب إلى الزوجات، تركت الأموال والمال محبوب إلى النفوس, تركت القصور والقصر أجمل ما يُسكن فيه، تركت كل شيء يحلو سماعه, يحلو القرب منه, ويحلو العيش معه. من أجل ماذا؟!
تركت كل شيء من أجل: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ (2) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3) وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ}().
تريد السعادة؟ تجدها في: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ}.
تريد الفرح والسرور؟{قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ}.
تريد انشراح الصدر؟{قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ}.
تريد الحياة الطيّبة؟{قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ}.
تريد التمكين في الأرض؟{قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ}.
تريد وظيفة؟{قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ}.
تريد المناصب والرئاسة والسيادة؟{قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ}.
السعداء هم أهل التوحيد يتمتعون في حياتهم, ويشعرون بالسعادة الحقيقة, فتراهم لا حزن, ولا نكد، ولا شقاوة, لإنهم رضوا بأفعال الله عن أنفسهم, فارتاحت نفوسهم برضا الله عنهم.
أما الصنف الثاني الذين ما عرفوا قيمة التوحيد{فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ}() {وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ}().
هذه حالة البؤساء, وتلك حالة السعداء, وأنت اختار حالتك التي تسعدك, وتفرحك.
الهدهد كان موحّدا لله, وذات يوم نظر إلى أقوام يوحّدون غير الله، ويعبدون غير الله، فلم يعجبه مناقض التوحيد، وتعجّب من هذا الدين الجديد!, فانطلق من مكان بعيد، ونقل لسليمان الخبر الشديد, فاختصر له ولم يزيد{أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ}().
فماذا كانت النتيجة؟! أسلم على يديه القوم, ومن جاء بعدهم, والفضل يعود لله ثم لك يا هدهد.
فيأسفاه!! على من كان الهدهد أغير منه, وأفضل منه، والنملة أفقه منه, والكلب أوفَ منه, والحوت أوسع منه{وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ}(){أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا}().
الغلام المؤمن في قصة أصحاب الأُخدود كان موحّدا لله, وكان ذكيًا ألمعيًا, وحين سنحت له فرصة عظيمة في تبليغ رسالة ربه، اغتنمها وحقق معاني عظيمة في مفهوم النصر والتمكين.
لقد انتصر الغلام بقوة فهمه وإدراكه لأقصر وأسلم الطرق لنصرة دينه وتوحيده، وإخراج أمته من الضلال إلى الهدى، ومن الكفر إلى الإيمان, وانتصر عندما وفق لاتخاذ القرار الحاسم في الوقت المناسب، متخطيًا جميع العقبات، ومستعليًا على الشهوات, وحظوظ النفس, ومتاع الحياة الدنيا، وانتصر على هذا الملك المتجبر المتغطرس، الذي أعمى الله قلبه، فأخرب ملكه بيده.
إن الغلام كان عبقريًا عندما خطط لإهلاك الملك الكافر وعندما رسم طريقه لنيل الشهادة في سبيل الله, رافعا شعار التوحيد.
لقد كان الانتصار العظيم في المعركة بين الكفر والإيمان لصالح موكب التوحيد، لقد استشهد فرد وحيت بسببه أمة فآمنت برب الغلام.
إن دقة التخطيط وبراعة التنفيذ، وسلامة التقدير، نجاح باهر، وفوز ظاهر, بإذن الله الخالق الظاهر.