الرضا آخذ بزمام مقامات الدين كلها, وهو روحها وحياتها, فإنه روح التوكل وحقيقته، وروح اليقين، وروح المحبة، وصحة المحب، ودليل صدق المحبة، وروح الشكر ودليله.
الراضي: هو الذي يعد نعم الله عليه فيما يكرهه، أكثر وأعظم من نعمه عليه فيما يحبه، كما قال بعض العارفين: يا ابن آدم نعمة الله عليك فيما تكره أعظم من نعمته عليك فيما تحب{وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ}()
وقال آخر: ارض عن الله في جميع ما يفعله بك, فإنه ما منعك إلا ليعطيك, ولا ابتلاك إلا ليعافيك, ولا أمرضك إلا ليشفيك, ولا أماتك إلا ليحييك, فإياك أن تفارق الرضا عنه طرفة عين, فتسقط من عينه.
وفي أثر مرفوع: خير ما أعطي العبد: الرضا بما قسم الله له.
وجاء في الأثر: من رضي من الله بالقليل من الرزق، رضي الله منه بالقليل من العمل.
وفي أثر آخر: إذا أحب الله عبدا ابتلاه, فإن صبر اجتباه، فإن رضي اصطفاه.
الرضا يثمر سرور القلب بالمقدور في جميع الأمور، وطيب النفس وسكونها في كل حال، وطمأنينة القلب عند كل مفزع مهلع من أمور الدنيا، وبرد القناعة، واغتباط العبد بقسمه من ربه، وفرحه بقيام مولاه عليه، واستسلامه لمولاه في كل شيء، ورضاه منه بما يجريه عليه، وتسليمه له الأحكام والقضايا، واعتقاد حسن تدبيره، وكمال حكمته، ويذهب عنه شكوى ربه إلى غيره وتبرمه بأقضيته, ولهذا سمى بعض العارفين الرضا: حسن الخلق مع الله, فإنه يوجب ترك الاعتراض عليه في ملكه، وحذف فضول الكلام التي تقدح في حسن خلقه, فلا يقول: ما أحوج الناس إلى مطر؟ ولا يقول: هذا يوم شديد الحر، أو شديد البرد, ولا يقول: الفقر بلاء، والعيال هم وغم، ولا يسمي شيئا قضاه الله وقدره باسم مذموم إذا لم يذمه الله -سبحانه وتعالى-, فإن هذا كله ينافي رضاه.
وقال عمر بن عبد العزيز -رحمه الله-: أصبحت وما لي سرور إلا في مواقع القدر.
وقال ابن مسعود -رضي الله عنه-: الفقر والغنى مطيتان ما أبالي أيهما ركبت، إن كان الفقر فإن فيه الصبر، وإن كان الغنى فإن فيه البذل.
وقال أيضا: الرضا يفرغ قلب العبد, ويقلل همه وغمه, فيتفرغ لعبادة ربه بقلب خفيف من أثقال الدنيا وهمومها وغمومها, كما ذكر ابن أبي الدنيا عن بشر بن بشار المجاشعي- وكان من العلماء- قال: قلت لعابد: أوصني, قال: ألق نفسك مع القدر حيث ألقاك, فهو أحرى أن يفرغ قلبك, ويقلل همك, وإياك أن تسخط ذلك، فيحل بك السخط وأنت عنه في غفلة لا تشعر به, فيلقيك مع الذي سخط الله عليهم.
وقال بعض السلف: ذروا التدبير والاختيار تكونوا في طيب من العيش, فإن التدبير والاختيار يكدر على الناس عيشهم.
وقال أبو العباس بن عطاء: الفرح في تدبير الله لنا, والشقاء كله في تدبيرنا.
وقال سفيان بن عيينة: من لم يصلح على تقدير الله لم يصلح على تقدير نفسه.
وقال أبو العباس الطوسي: من ترك التدبير عاش في راحة.
العبد ذو ضجر. والرب ذو قدر ... والدهر ذو دول. والرزق مقسوم
والخير أجمع فيما اختار خالقنا ... وفي اختيار سواه اللوم والشوم().
والرضا يوجب له الطمأنينة، وبرد القلب، وسكونه وقراره وثباته عند اضطراب الشبه والتباس والقضايا وكثرة الوارد، فيثق هذا القلب بموعود الله وموعود رسوله -صلى الله عليه وسلم-، ويقول لسان الحال: {هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَاناً وَتَسْلِيماً}(). والسخط يوجب اضطراب قلبه، وريبته وانزعاجه، وعدم قراره، ومرضه وتمزقه، فيبقى قلقا ناقما ساخطا متمردا، فلسان حاله يقول: {مَّا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً}(). فأصحاب هذه القلوب إن يكن لهم الحق، يأتوا إليه مذعنين، وإن طولبوا بالحق إذا هم يصدفون، وإن أصابهم خير اطمأنوا به، وإن أصابتهم فتنة انقلبوا على وجوههم، خسروا الدنيا والآخرة{ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ}() كما أن الرضا ينزل عليه السكينة التي لا أنفع له منها، ومتى نزلت عليه السكينة، استقام وصلحت أحواله، وصلح باله، والسخط يبعده منها بحسب قلته وكثرته، وإذا ترحلت عنه السكينة، ترحل عنه السرور والأمن والراحة وطيب العيش, فمن أعظم نعم الله على عبده: تنزل السكينة عليه, ومن أعظم أسبابها: الرضا عنه في جميع الحالات.
وكذلك تستحيل سلامة القلب من السخط وعدم الرضا، وكلما كان العبد أشد رضا، كان قلبه أسلم, فالخبث والدغل والغش: قرين السخط. وسلامة القلب وبره ونصحه: قرين الرضا. وكذلك الحسد هو من ثمرات السخط. وسلامة القلب منه: من ثمرات الرضا. فالرضا شجرة طيبة، تسقى بماء الإخلاص في بستان التوحيد، أصلها الإيمان، وأغصانها الأعمال الصالحة، ولها ثمرة يانعة حلاوتها في الحديث: ((ذاق طعم الإيمان من رضي بالله ربا، وبالإسلام دينا، وبحمد نبيا)) ()وفي الحديث أيضا: ((ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان...)) ().
ومن ملأ قلبه من الرضا بالقدر، ملأ الله صدره غنى وأمنا وقناعة، وفرغ قلبه لمحبته والإنابة إليه، والتوكل عليه, ومن فاته حظه من الرضا، امتلأ قلبه بضد ذلك، واشتغل عما فيه سعادته وفلاحه.
فالرضا يفرغ القلب لله، والسخط يفرغ القلب من الله، ولا عيش لساخط، ولا قرار لناقم، فهو في أمر مريج، يرى أن رزقه ناقص، وحظه باخس، وعطيته زهيدة، ومصائبه جمة، فيرى أنه يستحق أكثر من هذا، وأرفع وأجل، لكن ربه -في نظره- بخسه وحرمه ومنعه وابتلاه، وأضناه وأرهقه، فكيف يأنس وكيف يرتاح، وكيف يحيا؟{ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ}()().
اعلم أن كل مصيبة تنزل عليك فهي مقدرة لك من قبل أن يخلق الله السموات والأرض فلماذا تسخط ؟!{مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا}() جف القلم، رفعت الصحف، قضي الأمر، كتبت المقادير{قُل لَّن يُصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ اللهُ لَنَا}() ما أصابك لم يكن ليخطئك، وما أخطأك لم يكن ليصيبك.
الاستسلام لقضاء الله وقدره عقيدة, وهذه العقيدة إذا رسخت في نفسك, وقرت في ضميرك, صارت البلية عطية، والمحنة منحة، وكل الوقائع جوائز وأوسمة ((ومن يرد الله به خيرا يصب منه)) () فلا يصيبك قلق من مرض أو موت قريب، أو خسارة مالية، أو احتراق بيت، فإن الباري قد قدر والقضاء قد حل، والاختيار هكذا، والخيرة لله، والأجر حصل، والذنب كفر, فهنيئا لأهل المصائب صبرهم ورضاهم عن الآخذ، المعطي، القابض، الباسط{لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ}().
ولن تهدأ أعصابك وتسكن بلابل نفسك، وتذهب وساوس صدرك حتى تؤمن بالقضاء والقدر، جف القلم بما أنت لاق, فلا تذهب نفسك حسرات، لا تظن أنه كان بوسعك إيقاف الجدار أن ينهار، وحبس الماء أن ينسكب، ومنع الريح أن تهب، وحفظ الزجاج أن ينكسر، هذا ليس بصحيح على رغمي ورغمك، وسوف يقع المقدور، وينفذ القضاء، ويحل المكتوب{فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ}().