من أين أبدا؟ وكيف أبدا؟.
إن سألت عن الإيمان فهم الأكمل, وإن سألت عن العلم فهم الرعيل الأول, وإن سألت عن الخلق والأدب فهم الأمثل, وإن سألت عن النشاط فهم أسماك البحر وفهود البر, وإن قلت عن الهمة والعزيمة فحدّث لا تمل ولا تسأم, وإن ذكرت الشجاعة فلا تسأل.
هم أسود في صدور رجال، ورياح زعازع في ثبات جبال, الحرب دأبهم، والجد أدبهم، والنصر طعمهم، والعدو غنمهم, هم على الأعداء بلاء واقع، وسم ناقع, يطحنونهم طحنا, وينسفونهم نسفا, يصيبون الثغر من بعيد، ويدخلون بين زبر الحديد.
إن سألت عن جيوشهم فعدْ رمل الصحراء, ونجوم السماء, ترجف لها الأرض، ويستوي بها النشر والخفض، خلت الجبال سائرة، والبحار ثائرة, جيوشهم كالليل بكثرة الخيل، وكالنهار بوضوح الآثار. حسبت الأرض ترتحل برحيلهم، وتسير مع حوافر خيولهم, يبادرون أفواجاً وأرسالاً، وينفرون خفافاً وثقالاً, معسكراتهم وافرة المدد، كثيرة العدد, جميعهم غايتهم واضحة, كشمس في سماء صافية, باعوا الدنيا واشتروا الآخرة.
إنهم أبناء الحروب نشأوا فيها، وارتضعوا لبانها، وعرفوا مراسها، وألفو مساسها، كالأسود إقداما، والنيران اضطراما, رماحهم ظماء، وشرابها دماء، وسيوفهم هيام، ومشارعها نحور وهام، لا يملون الشر إذا خرست الأبطال، ونطقت الرماح الطوال, إنهم أبناء الغايات، وليوث الغابات, فإذا أقبلوا كانوا كالليوث الخوادر على العقبان الكواسر.
ما منهم إلا سيف الضريبة، وليث الكتيبة, والنمر الشجاع, والحصن الدفاع. إنهم صحابة شجعان, لا يرضون بالدون والنقصان, يتركون الأهل والخلان, ويقطعون السهول والوديان, والبر والبحار, والصحاري والغفار, لإعلاء كلمة الإسلام, ورضاء الواحد الديان, فسلموا أرواحهم لله قربان, فرضي الله عنهم ورضوا عنه, فنعم الرجال.
انظر لهم في يوم بدر, خرجوا يريدون الحرب الصغرى, وتأبى نفوسهم إلا الحرب الكبرى, خرجوا طالبين الغنيمة, فإذا الغنيمة غير الغنيمة, خرجوا لغنيمة دنيا فأصابوا الدنيا والأخرى.
أقبل المشركون, فاشتد غضب المسلمون, وازدادوا شدة مراس، وقوة باس، وثبات مقام، وصدق انتقام, وإذ بالرسول يقول: أشيروا عليّ أيها الناس.
فإذا بقائل المهاجرين يقول: امض لما أراك الله يا رسول الله، والله لا نقول كما قالت بنو إسرائيل لموسى: اذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون، ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون، فوالذي بعثك بالحق لو سرت بنا إلى برك الغماد لجالدنا معك من دونه حتى تبلغه.
وإذا بقائل الأنصار يوقظ المشاعر، ويدفع المتردد إلى الإقدام، وينبه الغافل إلى النصرة ولو كان الثمن النفوس، فيقول: والله لكأنك تريدنا يا رسول الله؟ قال: أجل! قال: فقد آمنا بك وصدقناك، وشهدنا أن ما جئت به هو الحق، وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا على السمع والطاعة، فصل حبال من شئت، واقطع حبال من شئت، وسالم من شئت، وعاد من شئت، وخذ من أموالنا ما شئت، وأعطنا ما شئت، وما أخذت أحب إلينا مما تركت، وما أمرت به من أمرٍ فأمرنا تبعٌ لأمرك، فامض يا رسول الله لما أردت، فنحن معك ما تخلف منا رجلٌ واحد، وما نكره أن تلقى بنا عدونا غداً، إنا لصبرٌ في الحرب، صدقٌ عند اللقاء، ولعل الله يريك منا ما تقر به عينك، فسر بنا على بركة الله.
وأنزل الله مطرا طهرهم به، وأذهب عنهم رجس الشيطان، وثبت به الأقدام, وربط به على قلوب الرجال, ووطّأ به الأرض، وصلّب به الرمل، ومهد به المنزل.
فلما تراءى الجمعان, وتلاقى الجيشان, فاصطف الجيل والرجل، وامتلأ الحزن والسهل، وبرقت الأبصار بشعاع السيوف، وسفرت رسل الحتوف بين الصفوف, وأظهرت الحرب نابها، وكشفت ساقها، وأضرمت نارها، واشتد نطاقها, التقى الجمع بالجمع، وقرع النبع بالنبع, دنا العنان من العنان، وأفضى الخبر إلى العيان, وسارت الجموع إلى الجموع، وبرق البصر بلمعان الدروع، وحمي الوطيس, وصمتت الألسنة، ونطقت الأسنة، وخطبت السيوف على منابر الرقاب، وأقدمت الرماح على الخطط الصعاب, واشتد أزر المصاع، وتكايل الشجعان صاعاً بصاع، تلاقت الفرق، واشتد الفرق، وصار الفارس إلى الفارس أقرب من ظله، والسيف أدنى إلى الوريد من حبله.
استعرت الملحمة، وعلت الغمغمة, فدارت رحى الحرب، واستحرت جمرة الطعن والضرب، واشتجرت سمر الرماح، وتصافحت بيض الصفاح, وضاق المجال، وتحكمت الآجال, فيومئذ لم ير إلا رؤوس تندر، ودماء تهدر، وأعضاء تتطاير، وأجسام تتزايل.
وفي هذا الوقت ترى طفلين وأيا طفلين, يخترقان الصفوف, ويزهقان الأرواح, ويبحثان عن الطريدة, كصقرين عن فريسة, فلما رأيا أبي جهل أنقضا عليه فقتلاه ونعم الأطفال, أطفال الرعيل الأول.
وأما بقية الرعيل فقد زحموا الأعداء من جوانبهم، وتمكنوا من فض مواكبهم، وطئوهم بسنابك الخيول، وتركوهم كجفاء السيول, وصبوا عليهم سوط عذاب, ووثبوا عليهم وثوب الأسود، وتركوهم كالزرع المحصود, نكوا فيهم نكاية القضاء والقدر، وأثروا فيهم تأثير النار في يبيس الشجر, شربوهم شرب الهيم، وحطموهم حطم الهشيم، وتركوهم كالرميم, تجردوا لهم فحطوهم وحطموهم، وهزوهم وهزموهم، تركوهم موطيء الحوافر، ومورد الكواسر، ومغدى الضباع، ومراح السباع..
فلما قضت منهم الرماح أوطارها، وبردت السيوف أوارها, ووضعت الحرب أوزارها, غنموا الدنيا وفازوا بالأخرى, مهللين مكبرين بالنصر. ونعم الرجال, رجال الرعيل الأول.