إن الله -جل وعلا- إذا رزق المؤمن الإيمان كمّل خصاله، وجمّل خلاله، وجعله من عباده الموصوفين بالفضائل، المترفعين عن الرذائل, فمكارم الأخلاق، ومحاسن الأخلاق خصلةٌ من خصال المؤمنين، وخلة من خلال الصالحين، ولذلك أثنى الله بها على نبيه في كتابه المبين، فقال -سبحانه وتعالى-: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ}() فأثنى على نبيه -عليه الصلاة والسلام- بالخلق، وما أعظم الخلق وما أجله عند الله وعند عباده! ولما سئل النبي عن أثقل شيء في الميزان قال: ((حسن الخلق)) () وقال -عليه الصلاة والسلام-: ((خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي))() قال: خيركم، أي: أكثركم خيراً وأرفعكم عند الله قدراً؛ لأن الأخيار هم أرفع الناس قدراً عند الله -جل وعلا-.
وفي الحديث عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه سأله الصحابة وقد سمت أرواحهم إلى الجنة، واشتاقت إلى رحمة الله –تعالى- عن أعظم ما يدخل المؤمن الجنة، فقال -عليه الصلاة والسلام-: ((تقوى الله وحسن الخلق)) () فأكثر ما يدخل الناس الجنة تقوى الله -جل وعلا- وحسن الخلق، أما تقوى الله فبينك وبين الله، وهو غيب لا يعلمه إلا الله، وأما حسن الخلق فبينك وبين الناس، ولذلك من أجل نعم الله -عز وجل- على العبد حسن الخلق.
فإذا كمل إيمان العبد كمل خلقه، وإذا كمل نبله وفضله كملت آدابه، وأصبح ممن أخبر النبي -صلى الله عليه وسلم-: ((ألا أنبئكم بأقربكم مني مجلساً يوم القيامة - هل قال: العالم أو العابد أو المجاهد؟ لا,- أحاسنكم أخلاقا، الموطئون أكنافاً، الذين يألفون ويؤلفون)) () أحاسنكم أخلاقا، أي: أنك لن تنظر إليه إلا وجدته قد أخذ من حسن الخلق بحظ وافر، إن وجدته في السماحة وجدته بلغ منها أعلى مراتبها، وإن وجدته في الجود والسخاء وحسن العشرة وبذل المعروف، وجدته في أعلى مراتبها.
ولذلك لن تقرأ سيرة عالم من علماء السلف إلا وجدت حسن الخلق سمة من سماتهم -رحمة الله عليهم-.
تسربلت أخلاقي قنوعا وعفة ... فعندي بأخلاقي كنوز من الذهب.
فقلَّ أن تجد إنساناً كريم الخلق إلا وجدته نقي الصدر؛ لأن مكارم الأخلاق لا تكون إلا بسلامة الصدور، وقلَّ أن تجد إنساناً فظاً غليظاً كثير الجفاء للناس، وكثير الأذية لهم، إلا وجدت في قلبه من الضغينة والبغضاء ما يحمله على ذلك -نسأل الله السلامة والعافية- لأن الأخلاق ما هي إلا نتيجة عما في السرائر والقلوب.
الله –تعالى- إذا اطلع على سريرة الإنسان، ووجدها سريرة صالحة فيها الخير والفضل والنبل، أظهر هذه السريرة لعباده في الأخلاق الطيبة((أحاسنكم أخلاقا)) إن آذاه أحدٌ عفا عن أذيته، وإن أحسن إليه رد له الإحسان أضعاف إحسانه، فإن عاشر الناس، إن أحسنوا إليه أحسن إليهم أكثر من إحسانهم، وإن أساءوا إليه اجتنب إساءتهم، وإن نظر إلى عوراتهم سترها، وإن نظر إلى خلاتهم وما هم فيه من الحوائج قضاها وقام بها.
سلامٌ على تلك القلوب الرحيمة، وسلام على تلك الأخلاق الكريمة، وتلك المعادن الأبية الصالحة التي كانت ترجو ما عند الله، وتريد رحمة الله –تعالى-، كان السلف الصالح -رحمة الله عليهم- لهم من الأخلاق والفضائل والنوائل ما تضرب به الأمثال.
اقرأ في سير الرجال، قد تجد العلم في العالم سمة من سماته، ولكن ما إن يبدأ باب الأخلاق، ويذكر أنه ذلك الرجل المتواضع الكريم السمح، إلا وينفتح قلبك لتلك الخصال، وينشرح صدرك لتلك الخلال وقلت: سبحان الله الكبير المتعال! سبحان من يقسم الأرزاق! وفي الحديث: ((إن الله قسم بينكم أخلاقكم كما قسم بينكم أرزاقكم)) () وإن الله لا يعطي الأخلاق إلا لمن أحب، أما الدنيا فيعطيها لمن أحب ومن لم يحب، أما الأخلاق والفضل والنبل والصلاح، وهذه الخصال التي قال عنها النبي -صلى الله عليه وسلم-: ((أحاسنكم أخلاقاً، الموطئون أكنافاً)) ما معنى الموطئون أكنافا؟ توطئة الكنف في التواضع، بمعنى أنه سهل أن تبلغ حاجتك منه، ويسير عليك أن تأخذ بغيتك من يده الطيبة، ما تجده صعباً بمجرد أن تأتيه، حتى إن بعض الأخيار كان من خيره أنه إذا جاءه الفقير ورأى في وجهه الفقر، عاجله بالعطية قبل أن يسأله الفقير المال، وهذا الكرم والفضل والنبل، وكان بعضهم يستحي أن يذكر الفقير حاجته قبل أن يعاجله بذلك العطاء، فكان الناس على خير كثير.
وقال بعض العلماء: لا تكون محاسن الأخلاق إلا برحمة من الله -جل وعلا-، وأول ما تكون محاسن الأخلاق وكريم الخلال للإنسان برحمة يقذفها الله في القلوب، ومصداق ذلك في قوله –تعالى- يخاطب نبيه: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ}() يعني: أن الإسلام ليس فيه إلا السماحة والعفو ولين الجانب، ولذلك وصف الله المؤمنين مع بعضهم فقال: {أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ}() فإذا كمل إيمان العبد أصبح لا يستطيع أن يؤذي أحداً من إخوانه المسلمين، لا ترى منه إلا خيراً، بمجرد أن تلقاه أول ما ترى كريم الخصال وطيب الخلال.
يقول جرير -رضي الله عنه-: ما لقيت النبي -صلى الله عليه وسلم- إلا تبسم في وجهي() وكان -صلى الله عليه وسلم- لا يعبس في وجوه الناس، ولا يقهرهم، ولا يعرض عنهم -صلوات الله وسلامه عليه إلى يوم الدين-، وهذه الخصلة في قوله: ((الموطئون أكنافا)) توطئة الكنف: بمعنى القرب من الناس والتدلل إليهم .
كن كما مثَّل العلماء كريم الأصل بالغصن الطيب، فإن الأغصان الطيبة إذا ملئت من الخير والثمرات تدلت للناس.
وهكذا كريم الأصل والعبد الصالح، الذي يريد الله به خيري الدنيا والآخرة كلما امتلأ علماً وفضلاً ونبلاً؛ كلما وجدته تدلى للناس، وزاده علمه قرباً من الناس.
ولذلك قال بعض السلف -رحمة الله عليهم- في سفيان الثوري: ما كان أعز الفقراء في مجلس سفيان، سفيان هذا ديوان من دواوين العلم والعمل والصلاح والفقه والحديث، كان إذا دخل الفقراء في مجلسه عزوا وأُكرموا، ورفعوا على الأغنياء والأثرياء والوجهاء، وهذا من كرم سفيان -رحمة الله عليه-().
فهكذا أهل الفضل أكنافهم موطأة.
((ألا أنبئكم)) أي: أخبركم ((بأقربكم مني مجلساً يوم القيامة؟ أحاسنكم أخلاقا، الموطئون أكنافا، الذين يألفون ويؤلفون)) فما أعظمها من كلمة! وما أعظمه من وصف! إذا جئت بين الناس يألفك الغني والفقير، الجليل والحقير، يألفك الناس على اختلاف طبقاتهم، الجاهل يألفك والعالم يألفك، من كريم الخصال وكريم الخلال، إذا رأيت الرجل تبسمت في وجهه ثم سألته عن حاله، وتعطي هذه الابتسامة خاصةً لضعفاء المسلمين، فإن الابتسامة لضعفاء المسلمين ابتسامة صدق وحق ورحمة تدل على صلاح صاحبها.
وتكون مسلماً منقاداً لله مستسلماً، قد سلم المسلمون من يدك ولسانك وزلات جوارحك وأركانك، تستقيم على طاعة الله، حتى إذا رآك العبد كأنه يرى شمائل كتاب الله وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم-، إن من الأخيار من لو رأيته ذكرت الله عند رؤيته، من الأخيار من إذا سمعت قوله في حال الغضب أو سمعت قوله في حال الرضا علمت أن وراء هذا القول قلباً يخاف الله -جل جلاله-. الأخلاق الحميدة تعيش بها حميداً، وتموت بها قرير العين راضياً عن ربك سعيداً، مات أناس وهم في الناس أحياء بسيرتهم العطرة وأخلاقهم الجليلة الجميلة النظرة، عاشوا في الناس وهم أموات في القبور، يذكرون بالجميل، ويترحم عليهم الحقير والجليل، فرحمة الله على تلك القلوب المؤمنة، وتلك الجوارح التي أرادت وجه الله -جل جلاله- في سعيها.
فالأخلاق عطية من الله لا بالتملق والنفاق والرياء، ولا بالكلمات المعسولة والقلوب التي مُلئت حمقاً وغيظاً على المسلمين، ولكن قول سديد وعمل صالح رشيد، تعلم أن وراءه عبداً يرجو الوعد ويخاف الوعيد.