الآن اكتشفتُ سرُّ حزنك, وتعاسك؛ أن قلبك مستوحش ومحتاج إلى أنيس يؤنسه, ويشغله حتى لا يموت من الحزن ومن اليأس.
ما أجمل القلب حينما يستولي ذكر الله عليه فينشرح ويطمئن ويسكن ويهدأ فيظهر أثره على الجوارح فترى صاحبه مسرور لا يكاد يعرف للحزن طريقا, ولا للضيق ممرا, فتغمره السعادة بثوبها الجميل, وتشرق عليه شمس الفرحة, ويهطل عليه مطر السكينة, فيعيش في أرض الأمان, ومن هنا تطيب له الدنيا والآخرة وما أحلى طيبهما! وأي شيء أجمل من طيب الدنيا التي لا تكاد تطيب؟!, ومن طيب الآخرة؟!.
قال أحدهم: والله ما طابت الدنيا إلا بذكره، وما طابت الآخرة إلا بعفوه، وما طابت الجنة إلا برؤية وجهه الكريم.
إن ألذ ما في الدنيا، وأهنأ ما في الحياة، وأمتع ما في الوجود ذكر الله، قال بعض السلف: مساكين أهل الدنيا، خرجوا منها وما ذاقوا أطيب ما فيها!! قيل: وما أطيب ما فيها؟ قال: ذكر الله وطاعته().
قال ابن القيم وهو يتكلم عن حال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله– قال: كان يجلس بعد صلاة الصبح إلى وضح النهار يذكر الله، لا يكلم أحدا ولا يلتفت، فإذا قضى ذكره قال: هذه غدوتي، إن لم أتغدها سقطت قوتي.
وكان يقول: الذكر للقلب مثل الماء للسمك فكيف يكون حال السمك إذا فارق الماء؟().
عليك بذكر الله –تعالى- في الخلوات فهي أفضل متعة للقلوب وما أجملها من متعة! حين تنشغل بمن يقذف في قلبك الفرح والسرور وتنسى كل ما يدفع ذلك عن قلبك ويزيدك غما إلى غمك, وهمّا إلى همك, ويجعلك تعيش في حياة الضنك والضيق{وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا}().
فالذكر علامة مميزة, وشامة مزيمة لطريق السائرين، فهو زاد القلوب وقوتها، وحياة الأفئدة وبهجتها، وسعادة الأرواح وانتعاشتها، والذكر روح الإيمان وزيادته، ودليل اليقين وعلامته، وسر التوكل وشارته، بل إن الذكر هو أهم عوامل السعادة والتوفيق في هذه الحياة الدنيا.
فاجعل وقتك لمراجعة حسابك مع الله, واترك اللهو واللعب والانشغال بمجالس أهل اللعب والفراغ, واعتزل الناس؛ فإن ذلك أعظم وسيلة لسعادة قلبك ولهذا قال بعض الحكماء: لا يتمكن أحد من الخلوة إلا بالتمسك بكتاب الله –تعالى-, والمتمسكون بكتاب الله –تعالى- هم الذين استراحوا من الدنيا بذكر الله, الذاكرون الله عاشوا بذكر الله, وماتوا بذكر الله, ولقوا الله بذكر الله –تعالى-.
ولذلك قيل لبعض الحكماء: ما الذي أرادوا بالخلوة واختيار العزلة؟ فقال: يستدعون بذلك دوام الفكرة, وتثبت العلوم في قلوبهم, ليحيوا حياة طيبة, ويذوقوا حلاوة المعرفة.
يروى عن بعض الصالحين أنه قال: بينما أنا أسير في بعض بلاد الشام إذا أنا بعابد خارج من بعض تلك الجبال, فلما نظر إليّ تنحى إلى أصل شجرة وتستر بها, فقلت: سبحان الله! تبخل عليّ بالنظر إليك!؟. فقال: هذا إني أقمت في هذا الجبل دهرا طويلا أعالج قلبي في الصبر عن الدنيا وأهلها, فطال في ذلك تعبي وفني فيه عمري, فسألت الله –تعالى- أن لا يجعل حظي من أيامي في مجاهدة قلبي فسكّنه الله عن الاضطراب, وألّفه الوحدة والإنفراد, فلما نظرت إليك خفت أن أقع في الأمر الأول فإليك عني, فإني أعوذ من شرك برب العارفين, وحبيب القانتين, ثم صاح واغماه من طول المكث في الدنيا ثم حول وجهه عني ثم نفض يديه وقال: إليك عني يا دنيا, لغيري فتزيني وأهلك فغري, ثم قال: سبحان من أذاق قلوب العارفين من لذة الخدمة, وحلاوة الانقطاع إليه ما ألهى قلوبهم عن ذكر الجنان, وعن الحور الحسان, وجمع همّهم في ذكره فلا شيء ألذ عندهم من مناجاته, ثم مضى وهو يقول :قدوس قدوس.
وقيل لبعض الرهبان: ما أصبرك على الوحدة؟. فقال: ما أنا وحدي, أنا جليس الله –تعالى- إذا شئتُ أن يناجيني قرأتُ كتابه, وإذا شئت أن أناجيه صليت.
وقيل لبعض الحكماء: إلى أي شيء أفضى بكم الزهد والخلوة؟. فقال إلى الأنس بالله.
وقال سفيان بن عيينة: لقيت إبراهيم ابن أدهم -رحمه الله- في بلاد الشام فقلت له: يا إبراهيم
وقيل لغزوان الرقاشي هبك لا تضحك فما يمنعك من مجالسة إخوانك. قال: إني أصيب راحة قلبي في مجالسة من عنده حاجتي.
وقال الفضيل: إذا رأيت الليل مقبلا فرحت به, وقلت: أخلو بربي, وإذا رأيت الصبح أدركني استرجعت كراهية لقاء الناس وأن يجيئني من يشغلني عن ربي.
وقال عبد الله بن زيد: طوبى لمن عاش في الدنيا وعاش في الآخرة. قيل له: وكيف ذلك؟. قال: يناجي الله في الدنيا ويجاوره في الآخرة.
وقال ذو النون المصري: سرور المؤمن ولذته في الخلوة بمناجاة ربه.
وقال مالك بن دينار: من لم يأنس بمحادثة الله -عز وجل- عن محادثة المخلوقين فقد قلّ علمه, وعمى قلبه, وضاع عمره().
واعلم أن علامة سعادة القلب: كمال الأنس بمناجاة الله –تعالى-, وذكره, وكمال التنعم بالخلوة به, وكمال الاستيحاش من كل ما ينغص عليه الخلوة ويعوق عن لذة المناجاة, وعلامة الأنس مصير العقل والفهم كله مستغرقاً بلذة المناجاة كالذي يخاطب معشوقه ويناجيه وقد انتهت هذه اللذة ببعضهم حتى كان في صلاته ووقع الحريق في داره فلم يشعر به, وقطعت رجل بعضهم بسبب علة أصابته وهو في الصلاة فلم يشعر به, ومهما غلب عليه الأنس صارت الخلوة والمناجاة قرة عينه يدفع بها جميع الهموم بل يستغرق الأنس والحب قلبه حتى لا يفهم أمور الدنيا ما لم تكرر على سمعه مراراً مثل العاشق الولهان فإنه يكلم الناس بلسانه وأنسه في الباطن بذكر حبيبه؛ الذي ينسيه هموم دنياه فالمحب من لا يطمئن إلا بمحبوبه().{الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ}().
قال -صلى الله عليه وسلم-: يقول الله –تعالى-: (( أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه إذا ذكرني)) ().
فإذا كان الله معك يجالسك فأي نعيم في الدنيا أكمل من هذا النعيم؟! وأي لذة في الدنيا مثل هذه اللذة؟! عُد إلى رياض الخلوة، وتقلب في الذاكرين، وأسبل دموع عينيك حبا وشوقا لرب العالمين، أمط عن قلبك ران النوم, وتسلل من معسكر النائمين، وانطرح على بساط القرب، واهنا بنسيم السحر؛ تجد جنة ونعيما في الأسحار, حيث تلهج قلوب الأبرار, بذكر الملك الجبار، وتشتاق إلى قربه، وترجو مودته وحبه، ومن ذاق عرف.
حقا يكاد شعر المرء يشيب، ويكاد عقله يطيش من جلال هذا المعنى: أن يكون الله معك .. تذكره فيذكرك .. تتلو كلامه فيحدثك، وتدعوه فيجيبك، وتناديه فيلبيك، هذه قمة استشعار الإنس والقرب، فإياك أن تموت ولم تأنس بربك، إياك أن تموت قبل أن تذوق هذا النعيم فتتحسر. فمن ذاق هذا الإنس واستشعره لم تكن لذته وشهوته إلا في الانفراد والخلوة بعيدا عن الناس، ويكون أثقل شيء عليه ما يعوق هذا الإنس ويعطله، قيل لبعض الحكماء: متى يذوق العبد طعم الإنس بالله؟. فقال: إذا صفا الود، وخلصت المعاملة. قيل: متى يصفو الود؟. فقال: إذا اجتمع الهمّ فصار همّا واحدا في الطاعة..
نعم يا من تريد السعادة!!. في الإنس بذكر الله قرة العين، وطمأنينة القلب، وسعادة النفس، ومن قرت عينه بالله قرت به كل عين().
يقول الله –تعالى- زيادة لسعادة الذاكرين: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ}().
أيّ تفضل؟!! وأيّ كرم؟!! وأيّ فيض في السماحة والجود؟!! إنه الفضل الذي لا يفيضه إلا الله، الذي لا خازن لخزائنه، ولا حاسب لعطاياه، الفضل الفائض من ذاته بلا سبب، ولا موجب إلا أنه هكذا، هو -سبحانه وتعالى- فياض العطاء.
إنه ذلك الفضل الذي لا يصفه لفظ، ولا يعبر عن شكره إلا سجود القلب, فمن نسيه الله فهو مغمور ضائع، لا ذكر له في الأرض، ولا ذكر له في الملأ الأعلى، ومن ذكر الله ذكره، ورفع من وجوده، وذكره في هذا الكون العريض.
لقد ذكر المسلمون الله؛ فذكرهم ورفع ذكرهم، ومكنهم من القيادة الراشدة، ثم نسوه: فنسيهم، فإذا هم همل ضائع، وذيل ذليل تافه.
والوسيلة قائمة، والله يدعوهم في قرآنه الكريم: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ}.
{فَاذْكُرُونِي} بالتذلل {أَذْكُرْكُمْ} بالتفضل. {فَاذْكُرُونِي} بالانكسار {أَذْكُرْكُمْ} بالمبار. {فَاذْكُرُونِي} باللسان {أَذْكُرْكُمْ} بالجنان. {فَاذْكُرُونِي} بقلوبكم {أَذْكُرْكُمْ} بتحقيق مطلوبكم.
{فَاذْكُرُونِي} بالتوبة {أَذْكُرْكُمْ} بغفران الحوبة. {فَاذْكُرُونِي} بالسؤال {أَذْكُرْكُمْ} بالنوال.
{فَاذْكُرُونِي} بلاغفلة {أَذْكُرْكُمْ} بلا مهلة. {فَاذْكُرُونِي} بالندم {أَذْكُرْكُمْ} بالكرم.
{فَاذْكُرُونِي} بالمعذرة {أَذْكُرْكُمْ} بالمغفرة. {فَاذْكُرُونِي} بالإرادة {أَذْكُرْكُمْ} بالإفادة.
{فَاذْكُرُونِي} بالتنضل {أَذْكُرْكُمْ} بالتفضل. {فَاذْكُرُونِي} بالإخلاص {أَذْكُرْكُمْ} بالخلاص.
{فَاذْكُرُونِي} بالقلوب {أَذْكُرْكُمْ} بكشف الكروب. {فَاذْكُرُونِي} باللسان {أَذْكُرْكُمْ} بالأمان.
{فَاذْكُرُونِي} بالافتقار {أَذْكُرْكُمْ} بالاقتدار. {فَاذْكُرُونِي} بالاعتذار {أَذْكُرْكُمْ} بالرحمة والاعتفار.
{فَاذْكُرُونِي} بالإسلام {أَذْكُرْكُمْ} بالإكرام. {فَاذْكُرُونِي} ذكرًا فانيا {أَذْكُرْكُمْ} ذكرًا باقيا.
{فَاذْكُرُونِي} بالتذلل {أَذْكُرْكُمْ} بمحو الزلل. {فَاذْكُرُونِي} بالاعتراف {أَذْكُرْكُمْ} بمحو الاقتراف. {فَاذْكُرُونِي} بصفاء السر {أَذْكُرْكُمْ} بخالص البر. {فَاذْكُرُونِي} بالصدق {أَذْكُرْكُمْ} بالرفق.
{فَاذْكُرُونِي} بالصفو {أَذْكُرْكُمْ} بالعفو. {فَاذْكُرُونِي} بالتعظيم {أَذْكُرْكُمْ} بالتكريم.
{فَاذْكُرُونِي} بترك الأخطاء {أَذْكُرْكُمْ} بأنواع العطاء. {فَاذْكُرُونِي} بالجهد في الخدمة {أَذْكُرْكُمْ} بإتمام النعمة.
{فَاذْكُرُونِي} من حيث أنتم {أَذْكُرْكُمْ} من حيث أنا. {فَاذْكُرُونِي} بالحب {أَذْكُرْكُمْ} بنيل القرب.
{فَاذْكُرُونِي} بالإجلال {أَذْكُرْكُمْ} بالإفضال.{فَاذْكُرُونِي} بالصبر عند البلاء {أَذْكُرْكُمْ} بكشف البأساء.
{فَاذْكُرُونِي} بالذل {أَذْكُرْكُمْ} بالعز. {فَاذْكُرُونِي} بطول السجود {أَذْكُرْكُمْ} بالعطاء والجود().
فما أروع الإنسان حينما يذكر من يأنس القلب بذكره, وينشرح الصدر بذكره, وتسكن الروح لسماع كلامه, وتهدأ الجوارح وترتاح للإنصات لكلامه.
إذا داهمك الهمّ, وألمّ بك الخوف والحزن, وضاقت عليك الأرض بما رحبت؛ فالجأ إلى ذكر الله –تعالى-, قال -عليه الصلاة والسلام-: ((ما أصاب أحدا قط هم ولا حزن فقال: اللهم إني عبدك، وابن عبدك، وابن أمتك، ناصيتي بيدك،ماض فئ حكمك، عدل فئ قضاؤك، أسالك بكل اسم هو لك، سميت به نفسك، أو علمته أحدا من خلقك، أو أنزلته في كتابك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك، أن تجعل القرآن ربيع قلبي، ونور صدري، وجلاء حزني، وذهاب همي إلا أذهب الله همه وحزنه، وأبدله مكانه فرجا))() ومن أعرض عن ذكر الله وجد الغمّ والكرب والضنك{وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى}.
فالشيطان الرجيم هو الذي يضيّق عليك الأرض بالهمّ والحزن والسأم فاطرده بذكر الله{إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ}() وقال -عليه الصلاة والسلام-: (( إذا أويت إلى فراشك فاقرأ آية الكرسي؛ فإنه لن يزال معك من الله حافظ ولا يقربك شيطان حتى تصبح)) (). فالتزم الذكر أينما كنت وحيثما كنت وفي أي مكان تكون, ولازم مجالس الذكر فإن فيها من السعادة والسرور, ما يشرح الصدور, ويطمئن القلوب, وينزل الرحمة, ويجعلك تعيش في حياة الأمن والأمان سعيدا مسرورا مع أهل السعادة الكرام البررة, الذين يحفونك ويجعلونك بين أجنحتهم ويحمونك من أضرار الهمّ وغباره ((لا يقعد قوم يذكرون الله -عز وجل- إلا حفتهم الملاتكة, وغشيتهم الرحمة، ونزلت عليهم السكينة، وذكرهم الله فيمن عنده)) ()فالقلب من شدة الهموم والغموم قد يقسو ولا شيء يلينه إلا ذكر الله –تعالى-, وذلك فضل الله لك إن حرصت عليه{ُثمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ}().
فابعد عن نفسك الكسل والتثاقل والجأ إلى الذكر الذي يعين على النشاط وعلو الهمة، وتنفي عن العبد الكسل، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((فإن استيقظ فذكر الله انحلت عقدة)) () من عقد الشيطان.