إني نظرت بعيني إلى حال المعلم وما يعانيه من هموم ثقيلة، وأحزان طويلة، وحياة تعيسة، فأردت أن أخفف من أثقاله، وأقصر من طول أحزانه، وأشرح صدره، وأسكن قلبه، وأهدي جوارحه..لعله مني إليه جبر خاطر..
أيها المعلم هل تذكر حين جئتك صغيرا لا أحسن القراءة والكتابة!? هل تذكر حين أرسلاني أبي وأمي إليك لتعلمني كيف الصبر على المتاعب?، وكيف القبض على الجمر!، وكيف أتحمل مشاق التعلم!، هل تذكر أنك أنت من علمني فن الصبر والعفو والصفح والسمح والإخلاص?! هل تذكر كل هذا?!..
فيا أيها المعلم! ويا حامل رتبة الرسل والأنبياء! ويا من كدت تكون رسولا!.. أقول لك: لا تحزن!.
أيها المعلمون لا تحزنوا!!فمنكم تعلمنا الصبر! ومنكم تعلمنا العزة! ومنكم تعلمنا الإخلاص! ومنكم تعلمنا الوفاء! ومنكم تعلمنا الورع! ومنكم تعلمنا الزهد! ومنكم تعلمنا كل شيء!..
فما بالكم حزينون، وصدروكم ضائقة!..
لا تحزن أيها المعلم! إن قلّ راتبك.. وضاقت عيشتك..ونفد صبرك..
لا تحزن! إن عاملوك بإساءة، وقلوك الاحترام، وأنقصوك التقدير والامتنان، ورموك بالتهم بالسر والإعلان.. فأنت المعلم قد وقّعت بختم رضاك على أخذ وظيفة حمل رسالة المصطفى -عليه الصلاة والسلام-..
لا تحزن! فمن المحال دوام الحال، والأيام مفطورة على التقلب والتدوار، فيوم نُسرّ ويوم نحزن، ويوم نبكي ويوم نفرح، وفي يوم نفرح لزواج فلان، وغدا نبكي لتعزية آخر، وهكذا هي الحالة يوم يعقبه يوم، الحياة ليست على وتيرة واحدة، الحياة كل يوم لها وضع، والله كل يوم هو في شأن، والناس يتقلبون بين نعم الله وبين مصائبه، والله –تعالى- يقول: {وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ}() تجده اليوم معافى وغداً مريضاً، اليوم مريضاً وغداً معافى، واليوم فقيراً وغداً غنياً، اليوم غنياً وغداً فقيراً، واليوم بيت فيه عزاء وبيت آخر فيه زواج وفرح، وبعد أيام تجد العكس فالبيت الذي كان فيه فرح أصبح فيه عزاء، والذي كان فيه عزاء صار فيه فرح.
إذاً: مسألة المداولة: أمر طبيعي, وكم مضى من الأمم والدول تتغير ويخلف بعضها بعض{وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ}().
لكل شيء إذا ما تم نقصان... فلا يغر بطيب العيش إنسان
هي الأمور كما شاهدتها دول... من سره زمن ساءته أزمان
وهذه الدار لا تبقي على أحد ولا... يدوم على حال لها شان.
أيها المعلم لا تحزن!! إن قُوبلت بالإحسان إساءة، وبالعدل ظلما وجورا.. فلك في رسول الله أعظم قدوة، وهو المعلم والأستاذ وهو القائد الأعلى للقوات المسلحة، وهو الزعيم والرئيس، فقد كان يتيما فقيرا، مكروها منبوذا، وحيدا مطرودا، مسبوبا مشتوما، ومع هذا كله لم يطلب من الناس العدل والمساواة، والاحترام والتقدير، والعزة والكرامة، ولم يطالب بحقوقه، ولم يطالب بشآنئه، ولم يقتص من أعداءه، ولم يكن له من الهمّ والحزن إلا كيف أن يعلم الناس، ويزكي الناس، ويرشد الناس، وينفع الناس، هذا همه! وهذه مطالبه! وهذه حقوقه! وهذه أمانيه! وهذه أحلامه، فأخرج طلابا أشد من الحجارة، وأقوى من الحديد، وأرفع من النجوم، وأطيب من ريح المسك، وأعذب من الماء، وأصفى من العسل، وأبيض من اللبن، منهم صدّيق الأمة، وفاروق الأمة، ومشتري الجنة، وسيف الله للأمة، وأمين هذه الأمة، وإمام أهل السنة، ومجدد الأمر لهذه الأمة -رضي الله عنهم جميعا-..
وأنت أيها المعلم ماذا لاقيت من ألم!? ماذا لاقيت من تعب!? ماذا لاقيت من بغض وكراهة!? ماذا لاقيت من إساءة!? ماذا لاقيت من ظلم!?..
قل لي ماذا لاقيت من هذا كله حتى تناسيت ما لاقاه المعلم والأستاذ الأول محمدا -عليه الصلاة والسلام-?!.
ما لاقيت من ذلك ولا شيء بالنسبة لدم الحيض وسلى الجزور التي سكبوها على ظهر الجسد الشريف جسده -عليه الصلاة والسلام-. طُرد من مكة وهي أحب البقاع إليه.. وجرح وأدمي جسده، وشج رأسه، وكسرت رباعيته، وقابلوه بالإحسان إساءة وظلما وعدوانا{وَما كانَ رَبُّكَ نَسِيًّا}() وهو مصرّ على أن يعلم الناس ويصيح بأعلى صوته: أنا النبي لا كذب، أنا ابن عبد المطلب.. وفتح مكة وحينها قال لأعداءه: اذهبوا فأنتم الطلقاء.. أي قلب يملك!!? نفديه بأرواحنا وأمهاتنا وأباءنا..
إذاً: فما بقي أمامك أيها المعلم إلا أن ترفع شعار الإخلاص{إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاء وَلَا شُكُوراً}()وانطلق بالسير نحو الله, لا لأجل وجوه الناس, ولكن لأنك معلم تعلم مما علمك العلام العليم, حتى ولو قلّ مرتبك، وسلبت حقوقك، فأنت لا تعمل للبشرية الذي يمكن أن ينقصوك حقك, إنك تعمل لله رب البشرية الذي يوفيك حقك بمقادير الذرّ{فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ}().
فوصيتي إليك: لا تحزن ودع القلق واليأس والقنوط من رحمة الله.. فالمعلم هو الشخص الوحيد الذي يجمع بين سعادات جمة، سعادات الدنيا والآخرة، ويكيفك في سعادته أنه الشخص الوحيد الذي ورث ميراث الأنبياء والرسل.. وهو الشخص الوحيد الذي سلك طريق الأنبياء والرسل..وهو الشخص الوحيد الذي ضحى بوقته، فترك عمله وشغله، وسهر ليله، فحرم نفسه لذيذ نومها، وترك زوجته نائمة لوحدها, ليعلّم أولاد المسلمين.. وتحمل المتاعب والمشاق، وربط الحجارة على بطنه وتحمل المجاع، ليشبع أولاد المسلمين.. وهو الوحيد الذي انشغل عن أولاده بأولاد المسلمين..وهو الشخص الوحيد الذي يسمى والدا بعد الوالد الحقيقي..وهو الشخص الوحيد الذي يكون دائما مبتسما للصغير والكبير.. وهو الشخص الوحيد الذي يضربنا ونحن نبتسم دون أن نقابله بالضرب..وهو الشخص الوحيد الذي نتهرب منه في الطريق حياء منه وإكراما لفضله..وهو الشخص الوحيد الذي يتكرر اسمه على الألسنة ليلا ونهارا، حتى بعد زمن بعيد يأتيه شخص لربما بشكله أنه أكبر منه فيقول: جزاك الله خيرا أستاذي الغالي فمنك تعلمت كذا وكذا.. ومنك صرت في مرتبة العلم كذا.. ومنك أصبحت من أكابر العلماء.. فما أجمل هذا الطريق الذي كاد صاحبه أن يكون رسولا!!، لأن المعلم منه صار الطالب عالما وداعية وإماما وخطيبا ومهندسا وطيارا ومدربا ومحاسبا، فلله در المعلم كم له من الأجور والحسنات.. وكم له من الذكر الحسن في حياته وبعد موته.
أيها المعلم لا تحزن!! فلكل شيء نهاية يصل إليها، فإذا رأيت الليل يغشي بظلامه فاعلم أن بعده فجرا فالق, وصباحا مشرق، وإذا رأيت العاصفة تعصف فاعلم أن بعدها هدوء، وإذا رأيت المطر يهطل بشدة فاعلم أن بعده صحو، وإذا رأيت الصحراء تمتد وتمتد، فاعلم أن وراءها رياضا خضراء وارفة الظلال، وإذا رأيت الحبل يشتد ويشتد، فاعلم أنه سوف ينقطع..
أيها المعلم لا تحزن!! واحمد الله الذي ألبسك هذا اللباس الذي بسببه اهتدت أمم، وتغيرت طباع، وأرشد حيران..
لا تحزن حين ترى ذلك الطالب مرتبه يعلو مرتبك!! وذاك البليد الذي علمته الشجاعة قد علا عليك علما وعملا ومالا.. ولا تحزن حين ترى رعاة الغنم ورعاة الإبل ورعاة الدجاج قد علت مرتباتهم عليك، ورفعت روؤسهم فوقك..
فلا تحزن فأنت من جعل الطالب ذا رتبة رفيعة.. وأنت من جعل ذاك البليد يتبختر عليك بعلمه.. وأنت من جعل رعاة الإبل والغنم تجارا وهوامير أموال..
لا تحزن!! واصبر فإن القلة فيها البركة والكثرة فيها الشخف والمقت والدبور..
لا تحزن أيها المعلم!! فهذا قدر الله فقد رفعت الأقلام وجفت الصحف، ولا يوجد مداد لتعبئة الأقلام للكتابة, ولا يوجد أوراق لاستنئاف الكتابة مرة أخرى، فالقدر واقع، والقضاء ملزوم، والرزق مقدر، أتريد بحزنك أن ترجع المطر إلى السماء، والشمس إلى مشرقها، والطائرة إلى الخلف!?? إذا كنت لا تستطيع فلماذا الحزن على ما كتبه الله من رزق ومرتب?!! فارضى بما قسم الله لك تكن أغنى الناس ولا يملى جوف ابن آدم إلا التراب.