إن الإنسان في الدنيا معرّض للمصائب والآلام, والأمراض والأسقام, ولا يرتاح العبد حتى يرضى بهذا الحال, ويصبر منتظرا المآل, ثم ما هي إلا لحظات إلا وسحائب الخير أنزلتْ عليه بردَ الرضا, فأنبتت له ثمرات الصبر, فعاش العبد قرير الحال, مرتاح البال, قد رضي عنه الرحمن.
والعبد حينما يتألّم ويعاني من الألم ينتج له –بإذن الله- حصادا طيبا, وثمرات يانعه.
تألّم الطالب زمن التحصيل وتحمّله لأعباء الطلب يثمر عالما جهبذا، لأنه احترق في البداية فأشرق في النهاية, ونفع الله به الأمة, وسطّر التاريخ ذكره.
وإن الطالب الذي عاش حياة الدعة والراحة ولم تلذعه الأزمات، ولم تكوه الملمات، إن هذا الطالب يبقى كسولا مترهلا فاترا.
حياة المؤمنين الأولين الذين عاشوا فجر الرسالة ومولد الملة، وبداية البعث، فإنهم أعظم إيمانا، وأبر قلوبا، وأصدق لهجة، وأعمق علما، لأنهم عاشوا الألم والمعاناة: ألم الجوع والفقر والتشريد، والأذى والطرد والإبعاد، وفراق المألوفات، وهجر المرغوبات، وألم الجراح، والقتل والتعذيب، فكانوا بحق الصفوة الصافية، والثلة المجتباة، آيات في الطهر، وأعلاما في النبل، ورموزا في التضحية{ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلا نَصَبٌ وَلا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَطَأُونَ مَوْطِئاً يُغِيظُ الْكُفَّارَ وَلا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلاً إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ}().
إذاً: فلا تجزع من الألم ولا تخف من المعاناة، فربما كانت قوة لك ومتاعا إلى حين، فإنك إن تعش مشبوب الفؤاد, محروق الجوى, ملذوع النفس؛ أرق وأصفى من أن تعش بارد المشاعر, فاتر الهمة, خامد النفس{كَرِهَ اللَّهُ انْبِعاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقاعِدِينَ}().
إن الوعظ المحترق تصل كلماته إلى شغاف القلوب، وتغوص في أعماق الروح؛ لأنه يعيش الألم والمعاناة{فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا}().
لا تعذل المشتاق في أشواقه ... حتى يكون حشاك في أحشائه.
لقد رأيت دواوين لشعراء ولكنها باردة لا حياة فيها، ولا روح؛ لأنهم قالوها بلا عناء، ونظموها في رخاء، فجاءت قطعا من الثلج وكتلا من الطين.
ورأيت مصنفات في الوعظ لا تهز في السامع شعرة، ولا تحرك في المنصت ذرة، لأنهم يقولونها بلا حرقة ولا لوعة، ولا ألم ولا معاناة{يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ}().
فإذا أردت أن تؤثر بكلامك أو بشعرك، فاحترق به أنت قبل، وتأثر به وذقه وتفاعل معه، وسوف ترى أنك تؤثر في الناس{فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ}()().