{لَهُمْ دَارُ السَّلامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ}(). الجنة ما الجنة؟! والفردوس ما الفردوس؟!. ما أجمل الحديث عن الجنة! وما أجمل سماع الكلام عن الجنة!.
لا خطر لها، لا مثيل لها، ورب الكعبة نور يتلألأ، وريحانة تهتز، وقصر مشيد، ونهر مضطرد، وثمرة نضيجة، وحلل كثيرة، وزوجة حسناء جميلة، وفاكهة وخضرة، وحبرة ونعمة، في محلة عالية بهية، في جنة عدن عند مليك مقتدر.
بناها الله –تعالى- لعباده المتقين أحسن بناء، وملأها من كرامته ورحمته ورضوانه؛ فبناؤها أحسن وأجمل وأتم وأكمل بناء، وكيف لا يكون ذلك وهي لبنة من ذهب ولبنة من فضة، بلاطها المسك، وحصباؤها اللؤلؤ والياقوت والجوهر، وترابها الزعفران، وسقفها عرش الرحمن؛ لا إله إلا هو! غرفها مبنية يُرى ظاهرها من باطنها، ويرى باطنها من ظاهرها، من دخلها ينعم لا يبأس، ويخلد لا يموت، لا تبلى ثيابه، ولا يفنى شبابه.
أما أشجارها، فما أشجارها؟.
ما من شجرة إلا ولها ساق من ذهب، ولها ساق من فضة.
أما ثمارها فألين من الزبد، وأحلى من العسل.
وأما ورقها فلا إله إلا الله! أحسن وأرق من رقائق الحلل.
أما تصفيق الرياح لذوائب أغصان أشجار الجنة، فيستفز من لا يطرب بالطرب.
ظل الشجرة يسير الراكب فيه مائة عام لا يقطعه, ولا يخرج منه, لطول الجنة وسعتها.
أما أنهارها, فما أنهارها؟.
أنهار من ماء غير آسن، وأنهار من لبن لم يتغير طعمه، وأنهار من خمر لذة للشاربين، وأنهار من عسل مصفى{مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفّىً وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ}().
وفوق ذلك ظلُّها ممدودٌ، وطلحُها منضود، تعلم أن الطلح له شوك، يقول أحد الأعراب للنبي -صلى الله عليه وسلم-: ذُكر في الجنة شجرة ما نعرف منها إلا الأذى -يقصد شوكها- قال: ألم تسمع لقول الله –تعالى-: {وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ}() نضد هذا الشوك، فأنبت مكان كل شوكة ثمرة ألْيَن من الزبد، وأحلى من العسل، فضلا من الله ومِنَّة.
أما ماؤها فمسكوب، حدائق وأعناب وكواعب أتراب.
أما طعام أهلها فلا إله إلا الله! فاكهة مما يتخيرون، ولحم طير مما يشتهون، شرابهم التسنيم والزنجبيل والكافور.
أما آنيتهم فالذهب والفضة في صفاء القوارير، وأَجْمِلْ بتلك الآنية!!!
فيها ما تشتهيه الأنفس، وتلذُّ الأعين، وفوق ذلك: مَن دخلها يخلد فيها أبداً.
فيها روح وريحان, ورب راضٍ غير غضبان.
قد ذُلِّلت قطوفُها تذليلاً، يتكئ أهلها على الأرائك لا يرون فيها شمساً ولا زمهريراً، ولا يسمعون فيها لغواً ولا تأثيماً, إلا قيلاً سلاماً سلاماً.
فيها مائة درجة، والناس في الجنة على درجات؛ منهم من يبلغ أعلى الجنة، ومنهم من هو في وسط الجنة، ومنهم من هو في ربض الجنة، لو أن العالمين اجتمعوا في درجة واحدة لوسعتهم.
سعة أبوابها: ما بين المصراعين مسيرة أربعين عاماً، وليأتين عليه يوم وهو كظيظ من الزحام.
أما ما للمؤمن فيها: فللمؤمن في الجنة خيمة من لؤلؤة مجوَّفة طولها في السماء ستون ميلاً، له أهلون يطوف على بعضهم فلا يرى بعضهم بعضاً، فضلاً من الله ونعمة.
أما لباس أهلها فلا تَسَل عن لباسهم؛ حرَّم عليهم الحرير والذهب في هذه الحياة وجعل لباسهم هناك من الحرير والذهب، وأنعم بذاك اللباس!!.
وأما صورتهم فأهلها جميعاً على صورة القمر ليلة البدر؛ فلا إله إلا الله، أي جمال يكون ذاك الجمال!!!؟ حليهم وأساورهم من ذهب وفضة ولؤلؤ وزبرجد وياقوت، من لذة إلى لذة إلى لذة، لا يجوعون ولا يظمئون، ولا ينصبون، ولا يشبعون، ولا يتعبون، وإنما لذَّات فوق لذّات{فِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الأنْفُسُ وَتَلَذُّ الأعْيُنُ وَأَنتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}().
{يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُّخَلَّدُونَ (17) بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ من معِينٍ}().
{إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤاً مَّنثُوراً (19) وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً وَمُلْكاً كَبِيراً}().
أما أسنان أهل الجنة: فأبناء ثلاث وثلاثين في سن الشباب، وما أجمل هذا السن!!.
أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون{خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأرْضُ}() في سعادة أبدية.
أما أمشاطهم فالذهب، وأما رشحهم فالمسك، وأما مجامرهم فالألوَّة، وهو أفضل الطيب وأفضل العود.
وأما الحور العين فيها: كواعب أتراب، لهن خدود كالورد والتفاح، ونهود كالرمان، وثغور كاللؤلؤ المنظوم، فيا له من نعيم، وأي نعيم لمن فاز بحوريات أهل الجنة!؟ قدْ رقَّ خصر الواحدة منهن، وحاجبها وأنفها، وطال قوامها وعنقها وشعرها، تجري الشمس من محاسن وجهها إذا برزت، ويضيء البرق من بين ثناياها إذا ابتسمت، إذا قابلت زوجها، فقل ما تشاء في تقابل الشمس والقمر! إن حادثت فما ظنك بمحادثة المحبين! وإن ضمها فما ظنك بتعانق الغصنين!
يرى وجهه في صحن خدِّها، ويرى مخ ساقها من وراء لحمها وعظمها وجلدها وعصبها وحُللها، لو طلعت على أهل الدنيا لملأت ما بين السماوات والأرض ريحاً، ولاستنطقت أفواه الخلائق تسبيحاً وتهليلاً وتكبيراً.
لو طلعت لقالوا: لا إله إلا الله! وسبحان الله والحمد لله والله أكبر!!.
لو طلعت لتزخرف لها ما بين السماوات والأرض، ولأغمضت عن غيرها كل عين، ولطمست ضوء الشمس كما تطمس الشمس ضوء النجوم، ولآمن مَن على ظهر الأرض بالله الحي القيوم.
سبحان الله! إذا ضحكت أضاءت الجنة كلها من ضحكها، إذا حاضرت زوجها فيا لذة المحاضرة! ويا لذة الكلام! وإن خاطرتْه فيا لذة المخاطرة والمعانقة! وإن كلمته فيا لذة الأسماع! فحديثها السحر الحلال.
الجنة السعادة الحقيقة التي لا تنتهي ولا تزول, ولا تنقص ولا تبور, فهي سلعة الله الغالية، فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر{فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم من قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}().
الجنة طيبة طاب نعيمها، فهو باق لا يبيد، وهو صاف عن كل شوب، لا يمازجه كدر، ولا يعرض له عطب ولا عفن().
ومن أجل أن الجنة طيبة، كانت دار الطيبين، فلا يدخلها إلا من صلح وطاب من الخَلْق كما قال –سبحانه-: {الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلَامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ}().
الجنة دار السلام: لأن أهلها سالمون من كل مكروه، لا يمسهم فيها نَصَب ولا وَصَب، ولا هم ولا حزن، فهي دار السلام من كل بلية وآفة ومكروه {لَهُمْ دَارُ السَّلَامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَهُوَ وَلِيُّهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}().
الجنة دار المقامة: التي يقيم فيها أهلها أبداً، لا يموتون ولا يتحولون منها أبداً, كما قال –سبحانه- حكاية عن أهلها: {وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ (34) الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لَا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلَا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ}().
فأهلها يرغبون في الإقامة فيها لكثرة خيراتها، ودوام مسراتها، وكمال نعيمها.
الجنة المقام الأمين: الذي يأمن فيه الإنسان من كل سوء وآفة ومكروه، الذي جمع صفات الأمن كلها، فهو آمن من الزوال والخراب، وأنواع النقص، وأهله آمنون من الخروج والنغص والنكد.
قد جمع الله فيه أمن المكان بقوله: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ}().
فيا أخي الحبيب ذكر نفسك بهذه الجنة فإن جعت في هذه الدار, أو افتقرت, أو حزنت, أو مرضت, أو بخست حقا, أو ذقت ظلما, فذكر نفسك بالنعيم، إنك إن اعتقدت هذه العقيدة وعملت لهذا المصير، تحولت خسائرك إلى أرباح، وبلاياك إلى عطايا. إن أعقل الناس هم الذين يعملون للآخرة لأنها خير وأبقى، وإن أحمق هذه الخليقة هم الذين يرون أن هذه الدنيا هي قرارهم ودارهم ومنتهى أمانيهم، فتجدهم أجزع الناس عند المصائب، وأندهم عند الحوادث، لأنهم لا يرون إلا حياتهم الزهيدة الحقيرة، لا ينظرون إلا إلى هذه الفانية، لا يتفكرون في غيرها ولا يعملون لسواها، فلا يريدون أن يعكر لهم سرورهم, ولا يكدر عليهم فرحهم، ولو أنهم خلعوا حجاب الران عن قلوبهم، وغطاء الجهل عن عيونهم لحدثوا أنفسهم بدار الخلد ونعيمها ودورها وقصورها، ولسمعوا وأنصتوا لخطاب الوحي في وصفها، إنها والله الدار التي تستحق الاهتمام والكد والجهد.
إذا كان المصير إلى هذه الدار؛ فلتخف المصائب على المصابين، ولتقر عيون المنكوبين، ولتفرح قلوب المعدمين.
فيا أيها المسحوقون بالفقر، المنهكون بالفاقة، المبتلون بالمصائب، اعملوا صالحا؛ لتسكنوا جنة الله وتجاوروه تقدست أسماؤه{سَلاَمٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ}().
ذكر نفسك بجنة عالية, تهون عليك المصائب, ويقلّ ألم النكبات.
أكثر من قراءة الكتب التي فيها حقيقة وصف الجنة, السعادة الأبدية, والحياة السرمدية, والهناء الدائم والراحة النفسية؛ تهون أمامك الدنيا وزخارفها, قال الأمام أحمد بن حنبل، وقد قيل له: متى الراحة؟. قال: إذا وضعت قدمك في الجنة ارتحت().
فأسال الله الكريم الرحيم أن يسعدنا بحياة الأبرار السعداء في الجنة, إنه وليُّ ذلك والقادر عليه.