أيام الدنيا دول لا يدوم فيها حزن ولا سرور، ولا عز ولا ذل، ولا غنى ولا فقر، وإنما الدهر بالإنسان دوار.
ملكنا أقاليم البلاد فأذعنت لنا رغبةً أو رهبة عظماؤها
فلما انقضت أيامنا عصفت بنا شدائد أيامٍ قليل رخاؤها
وصرنا نلاقي النائبات بأوجه الرقاق الحواشي كاد يقطر ماؤها
إذا ما هممنا أن نبوح بما جنت علينا الليالي لم يدعنا حياؤها.
{إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ}().
ولهذا فالحياة البشرية من يوم أن خلق الله أبونا آدم -عليه السلام- وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، لا تخلوا أبداً من عداوات هنا وهناك، وخصومات متنوعة مختلفة، وحروبٍ تقوم هنا وحروبٍ تقوم هناك، وأحلافٍ تقوم هنا وأحلاف تنفض هناك.
فسبحان مغير الأحوال من حال إلى حال إلى حال التمام, سنة كونية ربانيّة, الليل يعقبه نهار, والشمس يتبعها القمر, والمطر بعده صحو, والعاصفة بعدها هدوء, والغنى بعده فقر, والفقر بعده غنى, والصحة يعتريها مرض, والمرض بعده صحة, والسعادة يعتريها حزن, والحزن بعده سعادة, والعسر حوله يسران, واليسران بعدهما عسر, وأن الفرج مع الكرب وأنه لا يدوم الحال، وأن الأيام دول, وهكذا سنن الله تتداول ولا مبدل لسنته.
الفلك يدور، والليالي حبالى، والأيام دول، ومن المحال دوام الحال، والرحمن كل يوم هو في شأن, والملك بيده، يعز من يشاء ويذل من يشاء، ويرفع من يشاء ويخفض من يشاء، بيده الخير وهو على كل شيء قدير، فربما افتقر الغني وربما اغتنى الفقير, وما يدري الفقير متى غناه وما يدري الغني متى يعيل, فالأمر بيد الله، والرزق بيد الله، والقوة من الله، والغنى من الله، فيومٌ علينا، ويوم لنا, ويوم نُساء, ويوم نُسر{قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}() {يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ}() فمن شأنه أن يغفر ذنباً، ويفرج كرباً، ويرفع قوماً، ويضع آخرين، ويجيب داعياً، ويعطي سائلاً، ويفك عارياً، ويشفي سقيماً.
فالأيام تتبادل, يوم لك ويوم عليك, والدهر دول، لا يدوم على حال{وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ}() الدنيا غرَّارة خداعة، إذا حلَت أوْحلت، وإذا كسَت أوْكست، وإذا جلت أوْجلت.
وكم من ملكٍ رُفعت له علاماتٌ؛ فلما عَلا مات
هي الأقدارُ لا تُبقي عزيزاً وساعات السرورِ بها قليلة..
إذا نشر الضِّياءُ عليك نجمٌ وأشرق فارتقبْ يوماً أفوله
فيومٌ علينا ويومٌ لنا ويومٌ نُساءُ ويوم نُسَّر
الأمر جدُ وهو غيرُ مِزَاحِ فاعملْ لنفسك صالحاً يا صاحِ
كيف البقاء مع اختلاف طبائعٍ وكرور ليلٍ دائمٍ وصباحِ
تجري بنا الدُنيا على خطرٍ كما تجري عليه سفينةُ المَلاحِ
تجري بنا في لُجِ بحرٍ مالهُ من ساحلٍ أبداً ولا ضحضاح
فاقضوا مَآربكم عجَالي إنَّما أعمارُكم سفر من الأسفارِ
وتراكضوا خيل الشبابِ وبادرُوا أن تُستردَ فإنهنَّ عوارِ
الدهرُ يومان ذا أمن وذا خطرٌ والعيشُ عيشان ذا صفو وذا كدر
أما ترى البحر يعلو فوقه جيفُ وتستقرُ بأقصى قاعه الدُرَرُ؟
وفي السَّماء نجومٌ لا عِداد لها وليسَ يكسفُ إلا الشَّمسُ والقمرُ.
{وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ}ذهب أبو سفيان إلى هرقل وصار الكلام بينهما, سأله هرقل عن حالهم مع الرسول -صلى الله عليه وسلم-, فقال: الحرب بيننا وبينه سجال, يدال علينا وندال عليه, مرة لنا ومرة له(), انتصر علينا في بدر وانتصرنا عليهم في أحد, فيوم علينا ويوم لنا ويوم نساء ويوم نسر.
لكل شيء إذا ما تم نقصان... فلا يغر بطيب العيش إنسان
هي الأمور كما شاهدتها دول... من سره زمن ساءته أزمان
وهذه الدار لا تبقي على أحد ولا... يدوم على حال لها شان.
الحياة ليست على وتيرة واحدة، الحياة كل يوم لها وضع، والله كل يوم هو في شأن، والناس يتقلبون بين نعم الله وبين مصائبه، والله –تعالى- يقول: {وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} تجده اليوم معافى وغداً مريضاً، واليوم مريضاً وغداً معافى، واليوم فقيراً وغداً غنياً، واليوم غنياً وغداً فقيراً، واليوم بيت فيه عزاء وبيت آخر فيه زواج وفرح، وبعد أيام تجد العكس فالبيت الذي كان فيه فرح أصبح فيه عزاء، والذي كان فيه عزاء صار فيه فرح.
إذاً: مسألة المداولة: أمر طبيعي وكم مضى من الأمم والدول تتغير ويخلف بعضها بعض{وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ}.
دوام حال من قضايا المحال ... واللطف موجود على كل حال
والنصر بالصبر محلى الظبى ... والجد بالحد مريش النبال
وعادة الأيام معهودة ... حرب وسلم والليالي سجال
وما على الدهر انتقاد على ... حال فإن الحال ذات انتقال
من لليالي بائتلاف وكم ... من اعتبار باختلاف الليال
أخذ عطاء محنة منحة ... تفرق جمع جلال جمال
حال انتظام وانتثار معا ... كأنما هذي الليالي لآل
وهل سنا الصبح وجنح الدجى ... لخلقة الأضداد إلا مثال
والظلم الحلك على نورها ... تدل والعسر بيسر يدال
والسيف قد يصدأ في غمده ... ثم يجلي صفحتيه الصقال
والشمس بعد الغيم تجلى كما ... للغيث من بعد القنوط انهمال
والفرج الموهوب تجري به ... لطائف لم تجر يوما ببال
فصابر الدهر بحاليه من ... حلو ومر واعتدا واعتدال
فما له صبر على حالة ... وإنما الصبر حلي الرجال
ولا يضيق صدرك من أزمة ... ضاقت فصنع الله رحب المجال
وانظر بلطف العقل كم كربة ... فرجها لطف كحل العقال
وكل إليه كل حاج فما ... لذي حجى إلا عليه اتكال
وكل بدء فله غاية ... وغاية الخطب الشديد انحلال
وكل عود فله آية ... وآية العقل اعتبار المآل
وفي مآل الصبر عقبى الرضا ... من فرج يدني وأجر ينال
عجبت للعبد الضعيف القوى ... يغر بالرب الشديد المحال.
فاللهم أبدل حال أحزاننا إلى أفراح وسعادة تملأُ قلوبنا وتغمرنا يارب العالمين.