من سعادتك في الدنيا: أن تعلم -وتبني العلم باليقين- أن البشر مخلوقات ناقصة يعتريها النقص والخطأ والنسيان, فالأخ الذي بلوته في السراء والضراء, فعرفت مذاهبه، وخبرت شيمه، وصح لك غيبه، وسلمت لك ناصيته، فإنَّما هو شقيق روحك، وباب الروح إلى حياتك، ومستمد رأيك، وهو توأم عقلك، إذا صفا لك أخٌ فكنْ به أشد ضناً منك بنفائس أموالك، ثم لا يزهدن لك فيه أن ترى منه خلقاً أو خلقين تكرههما، فإنَّ نفسك التي هي نفسك لا تعطيك المقادة في كل ما تريد فكيف بنفس غيرك.
والبشر مفطورة على الخطأ والنسيان, والضعف والنقصان, فلا تطالب البشر بالكمال, ومَن مِن الناس صاحٍ ما به أسقام, فإن حدث تقصير من صديق, أو خطأ من حبيب, فتجاوز الخطأ لكثرة الفضائل, وهب للشخص من نقصه لفضله, والماء إذا بلغ قلتين لم يحمل الخبث، ومن قل خطؤه وكثر صوابه فهو على خير، والعبرة بكمال النهاية لا بنقص البداية.
وإذا الحبيب أتى بذنب واحد ... جاءت محاسنه بألف شفيع.
قال سعيد بن المسيب: ليس من عالم ولا شريف ولا ذي فضل إلا وفيه عيب، ولكن من كان فضله أكثر من نقصه وهب نقصه لفضله، كما أن من غلب عليه نقصانه ذهب فضله().
ويقول ابن رجب -رحمه الله-: والمنصف من اغتفر قليل خطأ المرء في كثير صوابه().
اعلم أن النادر لا حكم له، والعبرة على الغلبة لا على الندرة, وكل الناس عنده زلة, وفيه هفوة, ولكن محاسنه تقضي على تقصيره, والعاقل من يرمي النقص في بحر المحاسن, ومن طلب الكمال من البشر لم يبقى له حبيب, أما ترى رسول الله –صلّى الله عليه وسلم- يعفو عن حاطب ابن أبي بلتعة حينما والى الكفار؛ لأنه ممن شهد بدر, والحسنات يذهبن السيئات, والجبل بقممه المناطحة للثريأ لا ينقصه حجر, وقال في عثمان: ((ما ضر عثمان ما فعل بعد اليوم))().
سامح أخاك إذا خلط منه الإصابة والغلط
وتجاف عن تعنيفه إن زاغ يوماً أو قسط
واعلم بأنك إن طلبت مهذباً رمت الشطط
من الذي ما ساء قط ومن له الحسنى فقط؟.
قال ابن القيم: من كثرت حسناته وعظمت، وكان له في الإسلام تأثير ظاهر، فإنه يحتمل له ما لا يحتمل لغيره، ويعفى عنه ما لا يعفى عن غيره، فإن المعصية خبث، والماء إذا بلغ قلتين لم يحمل الخبث، بخلاف الماء القليل فإنه يحمل أدنى خبث، ...
ثم يقول: وهذا موسى كليم الرحمن -عز وجل- ألقى الألواح التي فيها كلام الله الذي كتبه له، ألقاها على الأرض حتى تكسرت، ولطم عين ملك الموت ففقأها، وعاتب ربه ليلة الإسراء في النبي - صلى الله عليه وسلم - ... وأخذ بلحية هارون وجره إليه، وهو نبي الله، وكل هذا لم ينقص من قدره شيئا عند ربه، وربه يكرمه ويحبه، فإن الأمر الذي قام به موسى، والعدو الذي برز له، والصبر الذي صبره، والأذى الذي أوذيه في الله أمر لا تؤثر فيه أمثال هذه الأمور، ولا تغير في وجهه، ولا تخفض منزلته، وهذا أمر معلوم عند الناس مستقر في فطرهم، أن من له ألوف من الحسنات فإنه يسامح بالسيئة والسيئتين ونحوها، حتى إنه ليختلج داعي عقوبته على إساءته، وداعي شكره على إحسانه، فيغلب داعي الشكر لداعي العقوبة().
فإن يكن الفعل الذي ساء واحدا ... فأفعاله اللاتي سررن كثير.