إن أردت السعادة حقّاً فهي في كلمات خمس فقط: لا تحزن!, لا تخف!, لا تغضب!, لا تسخط!, لا تيأس!.
كتابي هذا يعلمك ويرشدك دروب السعادة وكله يحكي عن خمسة لاءات, ومسكّناتها.
الأولى: لا تحزن!: لا تحزن على الماضي, واغلق صفحات الماضي, واجعله في عالم النسيان, ولا تحزن على ما فات, وأجعله في عالم الأموات. لا تحزن!: لأنك جربت الحزن بالأمس فما نفعك شيئا، رسب ابنك فحزنت، فهل نجح؟! مات والدك فحزنت فهل عاد حيا؟! خسرت تجارتك فحزنت، فهل عادت الخسائر أرباحا؟!.
لا تحزن!: لأنك مسلم آمنت بالله وبرسله وملائكته واليوم الآخر وبالقضاء خيره وشره، وأولئك كفروا بالرب وكذبوا الرسل واختلفوا في الكتاب، وجحدوا اليوم الآخر، وألحدوا في القضاء والقدر.
لا تحزن!: لأنك حزنت من المصيبة فصارت مصائب، وحزنت من الفقر فازددت نكدا، وحزنت من كلام أعدائك فأعنتهم عليك، وحزنت من توقع مكروه فما وقع.
لا تحزن!: لأن القضاء مفروغ منه، والمقدور واقع، والأقلام جفت، والصحف طويت، وكل أمر مستقر، فحزنك لا يقدم في الواقع شيئا ولا يؤخر، ولا يزيد ولا ينقص.
لا تحزن!: لأنك بحزنك تريد إيقاف الزمن، وحبس الشمس، وإعادة عقارب الساعة، والمشي إلى الخلف، وردّ ماء النهر إلى منبعه.
لا تحزن!: لأن الحزن كالريح الهوجاء تفسد الهواء، وتبعثر الماء، وتغير السماء، وتكسر الورود اليانعة في الحديقة الغناء.
لا تحزن!: لأن المحزون كالنهر الأحمق ينحدر من البحر ويصب في البحر، وكالنافخ في قربة مثقوبة، والكاتب بإصبعه على الماء.
لا تحزن!: فإن عمرك الحقيقي سعادتك وراحة بالك، فلا تنفق أيامك في الحزن، وتبذر لياليك في الهمّ، وتوزع ساعاتك على الغموم, ولا تسرف في إضاعة حياتك، فإن الله لا يحب المسرفين.
لا تحزن!: فإنه لن ينفعك مع الحزن دار واسعة، ولا زوجة حسناء، ولا مال وفير، ولا منصب سام، ولا أولاد نجباء.
لا تحزن!: فإن أموالك التي في خزانتك وقصورك السامقة، وبساتينك الخضراء، مع الحزن والأسى واليأس: زيادة في أسفك وهمك وغمك.
لا تحزن!: فإن عقاقير الأطباء، ودواء الصيادلة، ووصفة الطبيب لا تسعدك، وقد أسكنت الحزن قلبك، وفرشت له عينك، وبسطت له جوانحك، وألحفته جلدك.
لا تحزن!: لأن الحزن يريك الماء الزلال علقما، والوردة حنظلة، والحديقة صحراء قاحلة، والحياة سجنا لا يطاق.
لا تحزن!: وأنت عندك عينان وأذنان وشفتان ويدان ورجلان ولسان، وجنان وأمن وأمان وعافية في الأبدان, فلماذا الحزن؟!{فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ}().
لا تحزن!: ولك دين تعتقده، وبيت تسكنه، وخبز تأكله، وماء تشربه، وثوب تلبسه، وزوجة تأوي إليها، فلماذا تحزن؟!.
لا تحزن!: لأنك تقلق أعصابك، وتهز كيانك وتتعب قلبك، وتقض مضجعك، وتسهر ليلك.
لا تحزن!: إن كنت فقيرا فغيرك محبوس في دين، وإن كنت لا تملك وسيلة نقل، فسواك مبتور القدمين، وإن كنت تشكو من آلام فالآخرون يرقدون على الأسرة البيضاء ومنذ سنوات، وإن فقدت ولدا فسواك فقد عددا من الأولاد في حادث واحد.
لا تحزن!: وأنت تملك الدعاء، وتجيد الانطراح على عتبات الربوبية، وتحسن المسكنة على أبواب ملك الملوك، ومعك الثلث الأخير من الليل، ولديك ساعة تمريغ الجبين في السجود.
لا تحزن!: فإن الله خلق لك الأرض وما فيها، وأنبت لك حدائق ذات بهجة، وبساتين فيها من كل زوج بهيج، ونخلا باسقات له طلع نضيد، ونجوما لامعات، وخمائل وجداول، ولكنك تحزن!!
لا تحزن!: فأنت تشرب الماء الزلال، وتستنشق الهواء الطلق، وتمشي على قدميك معافى، وتنام ليلك آمنا.
لا تحزن!: إن أذنبت فتب، وإن أسأت فاستغفر، وإن أخطأت فأصلح، فالرحمة واسعة، والباب مفتوح، والغفران جم، والتوبة مقبولة().
الثانية: لا تخف!. اربط حزام الأمان على قلبك, وارفع شعار: {أَقْبِلْ وَلَا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ}()وانطلق في يومك, ولا تفكر في المستقبل فسوف يأتي -بإذن الله- على خير, وحقق الإنجاز اليوم, ولا تهتم لغدٍ, واجعل المستقبل وغداً لله سيتولى أمره, ومن كفاك همُّ أمس, سيكفيك همُّ اليوم وغداً, ومن حفظك في ماضيك, سيحفظك اليوم وسيحفظك غداً, فإذا أصبحت فلا تنتظر المساء، اليوم فحسب ستعيش، فلا أمس الذي ذهب بخيره وشره، ولا الغد الذي لم يأت إلى الآن. اليوم الذي أظلتك شمسه، وأدركك نهاره هو يومك فحسب، عمرك يوم واحد، فاجعل في خلدك العيش لهذا اليوم وكأنك ولدت فيه وتموت فيه، حينها لا تتعثر حياتك بين هاجس الماضي وهمّه وغمّه، وبين توقع المستقبل وشبحه المخيف وزحفه المرعب، لليوم فقط اصرف تركيزك واهتمامك وإبداعك وكدك وجدك.
لا تخف! فأنت في ظلِّ الأمان مع ربُّ العالمين, وفي حماية كاملة من الذي نعبده وبه نستعين.
لا تخف! من أي مخلوق خلقه ربُّ العالمين, فأنت مخلوق وهو مخلوق وأنا مخلوق فلماذا الخوف من المخلوق؟!.
لا تخف! وأنت الذي يخافك كلُّ مخلوق, ويهابك كلُّ حيوان, ويفرُ منك كل شيطان, فلماذا الخوف من المخلوقين وهم قاصرون عن الضرّ والنفع؟!, ولا يقدر أحد أن يضرك أو يميتك إلا إذا أراد الله ذلك, وإن لم يرد فو الله لن يستطيع أحدٌ أن يضرك{لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَلَا يَمْلِكُونَ مَوْتًا وَلَا حَيَاةً وَلَا نُشُورًا}().
لا تخف! من الجنِّ, فهم الذي يخافون من بني الإنس, وهم الذين يهربون منك ولكنك لا تعلم ولا تدري, أرأيت كيف يهرب الشيطان من الفاروق عمر, فكن شجاعا قويا أمام عالم الجن المستور فهم أضعف ممّا تتصور, وأجبن ممّا تتخيل, فيجب عليك أن تظهر شجاعتك وقوتك {إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا}().
لا تخف! من الحيوانات, ولا من السباع, ولا من الطيور, فوالله إنها تراك وإذ بها تفرُّ هاربة خائفة وجلة منك, لأنك أنت الشجاع البطل, والوحش المخيف في هذه الأرض, ولأن الأرض خُلقت لك وليست لها, فلماذا الخوف منها؟!.
لا تخف! وهذا التبشير لك من ربّ السموات والأرض: {أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ}() بس عليك أن تربط حزام الأمان على قلبك, المصنوع من الإيمان بالله, والتوكل على الله, والخوف من الله, ومراقبة الله, واترك كل خوف من مخلوق.
الثالثة: لا تغضب!. لا تغضب, وإن حصل ما يُغضبك اجلس واستغفر وسبّح, حتما ستبرد أعصابك وتهدأ.
لا تغضب!, إذا غضبت فاسكت, وتعوذ من الشيطان, وغير مكانك، وإن كنت قائما فاجلس وتوضأ وأكثر من الذكر{إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَواْ إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ}().
لا تغضب! فإن الغضب يفسد المزاج، ويغير الخلق, ويسيء العشرة، ويفسد المودة، ويقطع الصلة, ويؤدي إلى الندامة.
لا تغضب! ولا تضجر! ولا تتحمس! ولا تتذمر! فإنك بغضبك تهدم بناء حياتك حجرا تلو الأخر.
لا تغضب! فغضبك على أولادك ربما يؤدي إلى إتلاف واحد منهم, وبعد الغضب تبدأ الندامة والحسرة, ولا تغضب! على زوجتك فلربما أطلقت عليها واحدة من ثلاث طلقات فتصبح معلّق بين اثنتين طول حياتك ندمان حزين.
لا تغضب! من تعامل الخلق معك فأكثرهم يحسدك على ما معك, وبعضهم يغار من سعادتك, وبعضهم يُحبُّ أن يمازحك, وغضبك يعني لهم حرب ضروسية صارمة وأنت الخسران فيها, وأنت المنكوب بها, فاحذر من الغضب.
لا تغضب! من سوء معاملة الناس معك وارفع شعار السعادة الذي عنوانه: {وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَاماً}().
الرابعة: لا تسخط!. إياك والتسخط على أقدار الله, والتذمر على مصائب الله, والاعتراض على ما قدره الله لك, بل ارض واقنع بما كتب الله لك, وسلّم أُمرك لرب السماء تسلم, والسخط باب الهمّ والغمّ والحزن، وشتات القلب، وكسف البال، وسوء الحال، والظن بالله خلاف ما هو أهله.
والسخط يوجب اضطراب قلب العبد، وريبته وانزعاجه، وعدم قراره، ومرضه وتمزقه، فيبقى قلقا ناقما ساخطا متمردا، والرضا يخلصه من ذلك كله، ويفتح له باب جنة الدنيا قبل الآخرة، فإن الارتياح النفسي لا يتم بمعاكسة الأقدار ومضادة القضاء، بل بالتسليم والإذعان والقبول، لأن مدبر الأمر حكيم لا يتهم في قضائه وقدره.
والرضا يوجب له الطمأنينة، وبرد القلب، وسكونه وقراره وثباته عند اضطراب الشبه والتباس القضايا وكثرة الوارد، فيثق هذا القلب بموعود الله وموعود رسوله -صلى الله عليه وسلم- وللرضا بأقدار الله ثمرات إيمانية كثيرة وافرة تنتج عنه، يرتفع بها الراضي إلى أعلى المنازل، فيصبح راسخا في يقينه، ثابتا في اعتقاده، وصادقا في أقواله وأعماله وأحواله{رَّضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ}() واعلم أن رضاك عن ربك -سبحانه وتعالى- في جميع الحالات, وعدم تسخطك على أقدار الله، يثمر لك رضا ربك عنك، فإذا رضيت بالقليل من الرزق ولم تسخط، رضي ربك عنك بالقليل من العمل، وإذا رضيت عنه في جميع الحالات, رضي عنك في جميع الحالات, ولذلك انظر للمخلصين مع قلة عملهم، كيف رضي الله سعيهم لأنهم رضوا عنه ورضي عنهم، بخلاف المنافقين، فإن الله رد عملهم قليله وكثيره؛ لأنهم سخطوا ما أنزل الله وكرهوا رضوانه، فأحبط أعمالهم.
ومن ملأ قلبه من الرضا بالقدر، ملأ الله صدره غنى وأمنا وقناعة، وفرغ قلبه لمحبته والإنابة إليه، والتوكل عليه. ومن فاته حظه من الرضا، امتلأ قلبه بضد ذلك، واشتغل عما فيه سعادته وفلاحه.
فالرضا يفرغ القلب لله، والسخط يفرغ القلب من الله، ولا عيش لساخط، ولا قرار لناقم، فهو في أمر مريج، يرى أن رزقه ناقص، وحظه باخس، وعطيته زهيدة، ومصائبه جمة، فيرى أنه يستحق أكثر من هذا، وأرفع وأجل، لكن ربه -في نظره- بخسه وحرمه ومنعه وابتلاه، وأضناه وأرهقه، فكيف يأنس وكيف يرتاح، وكيف يحيا؟().
قال ابن مسعود: وإن الله -بحكمته- جعل الروح والفرح في الرضا واليقين, وجعل الهمّ والحزن في الشك والسخط().
الخامسة: لا تيأس!. ولا تقنط! لو علمت سعة رحمة الله ما قنطت منها. رحمة الله واسعة شملت الحيوان, والطير, والجن, والإنس.
فلا تيأس! وربنا يخاطبك أنت بخطاب الأُنس والحُبّ والعطف{قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ}() حتى أُمك لم تُخاطبك بمثل هذا الخطاب الطيّب الرقيق الذي يحمل معاني الحُبّ.
لا تيأس! وربك يحبك, ويقول لك: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ}().
إذا عندك ذنوب, وآثام, وأوزار, فلا تقنط من رحمته, ولا تيأس من كرمه فهو الكريم الرحمن التواب الرحيم العفو الغفور{وَمَن يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللهَ يَجِدِ اللهَ غَفُوراً رَّحِيماً}() ومن دعائم السرور والارتياح للنفس، أن تشعر أن هناك ربا يرحم ويغفر ويتوب على من تاب، فأبشر برحمة ربك التي وسعت السماوات والأرض، وما أعظم لطفه -سبحانه وتعالى-، وفي الحديث: أن أعرابيا صلى مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فلما أصبح في التشهد قال: اللهم ارحمني ومحمدا، ولا ترحم معنا أحدا. قال -صلى الله عليه وسلم-: ((لقد حجرت واسعا)) (). أي: ضيقت واسعا، إن رحمة الله وسعت كل شيء{وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً}() ((الله أرحم بعباده من هذه بولدها)) ().
إذاً: لا تقنط! ولا تيأس! حتى وإن بلغت ذنوبك عنان السماء ومعك ربّ العالمين, وعليك أن تعلم مسائل حتى لا يدركك القنوط منها: سعة رحمة أرحم الراحمين، وأن الإسلام يهدم ما قبله، وأن التوبة تجب ما قبلها، وأن جبال الذنوب في غفران علام الغيوب لاشيء، وأنه يجب عليك حسن الظن بمولاك، والرجاء في كرمه العميم، ورحمته الواسعة.