عجيبة تلك العضلة الصغيرة في جسمك, فعلى الرغم من صغر حجمها فإنها تصنع أعمالاً عظيمة، فقد تمزق وتفرق وقد تجمع وتقرب، وقد تكون سببًا لسعادة الإنسان في حياته، فيستطع أن يجمع القلوب إليه راغمة عن أنفها، ويعيش في سعادة أبدية مع الله ومع إخوانه.. وقد تكون أيضًا سببًا في شقائه، وفتح بابا لأحزانه، فيعيش حزينا منكس الرأس، منبوذا من قلوب الناس، وقد تكون سببًا لزيادة الحسنات ورفعة الدرجات, وقد تكون سببًا لكسب السيئات ومحق الحسنات..
لسانك التي بين فكيك اضبطها في الكلمة الطيبة، فالكلمة الطيبة معطاء جميلة رقيقة لا تؤذي المشاعر، ولا تخدش النفوس، جميلة اللفظ، جميلة المعنى، رقيقة المبنى، رقيقة المعنى، يشتاق لها السامع فيطرب ويشتاق ويخشى ويسعى.
فما أجمل الكلمة الطيبة! حين تخرج طيبة الثمر، نتاجها مفيد، غايتها بناءة، منفعتها واضحة، أصلها ثابت مستمد من قلب صافٍ، وتمتد شامخة بفرعها إلى السماء؛ لأنها نقية، وصادرة -بإذن الله- عن صدق نية، تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها، يسمعها السامع فينتفع بها، وينقلها لغيره فينتفع، حتى إنه لينتفع بها الفئام من الناس، ويمتد النفع إلى ما شاء الله، وصاحبها لا يعلم مداها؛ فتبقى ذخرا له بعد الممات، ورصيدا له في الحياة..
ما أجمل أن تضبط لسانك فتبقيها ما بين ما ينفعك عند الله وما بين ما يقرب قلوب الناس إليك.. ما أجمل أن تجعلها رطبة بذكر الله فليس في الوجود شيئا أحب للقلوب من ذكر الله ويكفيك أن بذكر الله تطمئن القلوب، وتلين الجلود، وتنشرح الصدور، وتنور الوجوه..
ما أجمل أن يكون لسانك رطبا بذكر الله، معطرا بذكر الله، يفوح منه مسك الإيمان، إنه -ورب الكعبة- سعادة ليس لها مثيل من أمثلة الدنيا..
وتذكّر أن سعادتك وتعاستك في لسانك؛ فإن استطعت التحكم في لسانك فإنك تستطيع التحكم في سعادتك, فكلما كانت كلماتك لطيفة ومهذبة ومؤدبة كسبت بذلك ودّ من حولك وحبهم واحترامهم، وازدادوا شوقًا إلى حديثك وسماع كلامك, ورأيتهم وقد شُغفت قلوبهم بحبك، إنه جميل!! إنه راقي!! إنه عسل!! لأنك ذوقتهم من بشاشة وجهك ابتسامة، ومن حلاوة لسانك كلمة طيبة، ومن سعة يدك عون المحبة..
أما ترى البعض قلوبهم أشد من الحجارة، وأقسى من الحديد، فتتفاجئ بمن يجيد الكلمات العذبة، والبسمات الحلوة، والحركات الحنانة كيف يكسر قلوبهم المحجرة، ويذوب حديد قلوبهم..لماذا? لأن الكلمة الطيبة مفتاح القلوب الحجرة.
وكلما كان اللسان طويلاً غير مهذب بذيئًا كسبت نفور من حولك، وفقدت احترامهم لك، وكرهوك وكرهوا مجالستك تفاديًا لسماع حديثك وكلامك، ونفوراً من قساوة حروف لسانك، واشمزاز وجهك، فألن الكلمة، وعطرها بالمحبة والطيب، وأرسلها ببريد الشوق، لتستلمها قلوب المحبين لك، وتقرأها قلوبهم، فتبقى كالذهب غالي، إن رأتك القلوب قادما فالشوق للقاءك، وإن حضرت إليها فالود والحب والبسمات، وإن غبت عنها فالسؤال عنك والدعاء لك والمدح والشوق للقياك..
قال بعض الأدباء: يستدل على عقل الرجل بقوله، وعلى أصله بفعله، من قوّم لسانه زان عقله، ومن سدد كلامه أبان فضله، ومن منّ بمعروفه سقط شكره، ومن أعجب بعمله حبط أجره، من صدق في مقاله زاد في جماله. الزم الصمت تعد نفسك فاضلاً، وفي جهلك عاقلاً، وفي أمرك حكيماً، وفي عجزك حلمياً، الزم الصمت تكسب صفو المودة، وتأمن سوء المغبة، وتلبس ثوب الوقار، وتكفى مؤنة الاعتذار، الصمت آية الفضل، وثمرة العقل، وزين العلم، وعين الحلم، فالزمه تلزمك السلامة، واصحبه تصحبك الكرامة..
وقال بعض الفضلاء: اعقل لسانك إلا عن عظة شافية يكتب لك أجرها, أو حكمة بالغة يحمد عنك نشرها.. الحذر خير من الهذر لأن الحذر يقي المهجة، والهذر يضعف الحجة، من أفرط في المقال زل، ومن استخف بالرجال ذلّ، جرح الكلام أشدّ من جرح السهام، ضرب اللسان أشدّ من طعن السنان، ولله در من قال:
جراحات السنان لها التئام ... ولا يلتام ما جرح اللسان().
فاقتصر من الكلام على ما يقيم حجتك، ويبلغ حاجتك، وإياك والفضول! فإنه يزل القدم، ويورث الندم، لسانك إن عقلته حرسك، وإن أطلقته افترسك، اخزن لسانك كما تخزن مالك، واعرفه كما تعرف ولدك، وزنه كما تزن نفقتك، وانطق به على قدر، وكن منه على حذر، فإن إنفاق ألف درهم في غير وجهها لأيسر من إطلاق كلمة في غير حقها، رب كلمة أوجبت مقدورا، وأخربت دورا، وعمرت قبورا، والاستماع أسلم من القول.. قال حكيم: أبلغ الكلام ما قلت فضوله، وتمت فصوله، أبلغ الكلام ما صحت مبانيه، ووضحت معانيه، أبلغ الكلام ما أعرب عن الضمير، وأغنى عن التفسير، أبلغ الكلام ما يدل أولاه على آخره, ويستغنى بباطنه عن ظاهره، سوء المقالة يزري الحالة..
من قال بلا احترام أجيب بلا احتشام، قصر كلامك تسلم, وأطل احتشامك تكرم، اعقل لسانك إلا عن حق توضحه، أو خلل تصلحه، أو كلمة تفسرها، أو مكرمة تنشرها().
لا تستهين بعاقبة الكلمة التي تخرجها فقد تسلبك سعادتك، وتضيق عيشك، وتحزنك أبد الدهر..
انظر إلى المنافقين!,كلمة أخرجتهم من الإسلام{لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ}().
وانظر إلى الناصح لأخيه!, كلمة واحدة أمام معصية أخيه حجبت سعادته، حين رد الله عليه في الحديث: (( فقد غفرت لصاحبك وأحبطت عملك)) ().
كلمة واحدة من لسانك تغير لون البحر:((لقد قلتي كلمة لو مزجت بماء البحر لمزجته)) ().
كلمة واحدة تنطلق من لسانك تعمل أشد من عمل المدافع والصواريخ والدبابات, فكم رأيت من إنسان جُرح برصاصة فتمّ علاجه وعوفي وبوخر، أما جرح اللسان لا يبرى ولا يلتئم ولا يُنسى, أما رأيت أم المؤمنين عائشة المعصومة -رضي الله عنها- حين خرجت تلك الكلمات القبيحة من أفواه المنافقين, وجرحت مشاعر المسلمين، وعكرت عيشهم, وقد ماتت عائشة ومات الرسول ومات الصحابة ومات التابعون ومات من بعدهم وأثر الكلمة ما زال إلى اليوم يتداوله مرضى القلوب..
إنها كلمة إما تلقيك في نعيم وسرور, أو في جحيم وأحزان, فاحفظها حفظك الله.