{قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ}().
ما أجمل هذه الكلمات!, وما ألطفها!, وما أعذبها!, كلمات إن نظرت بعين البصر والبصيرة فيها وجدتها سعادة ولذة, حياة وسكينة, وقار وطمأنينة, هدوء للقلب, ونور وضياء للوجه.. أما تشرح صدرك!, وتزيل همك!, وتكشف كربك!, وتسعد حياتك!, وتوسع حياتك!, وتيسر أمرك!, وتجلب رزقك!, يوم أن تقرأ هذه الآية: {قُلْ يَا عِبَادِيَ}؟ خطاب يؤلف القلوب, ويجمع الكلمة, ويوحد الصف, ويزيل الشقاق, ويؤنس الأرواح.. خطاب خصّ الله به المكثرين من الذنوب والمعاصي[ وكلنا ذو معاصي وذنوب] لأنه أعلم بهم أنهم أصحاب هموم وغموم وأحزان, فارد أن يسليهم بهذا الأُسلوب العذب, وأرد أن يخبرهم أن رحمته واسعة وشاملة, لم تخطر على قلب أحدكم, لماذا يا عبادي لا تتوبون؟! ولماذا يا عبادي لا ترجعون؟! ولماذا يا عبادي لا تنيبون؟! حتى وإن عصيتم وأذنبتم واقترفتم المعاصي{يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً} إني {الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} فما الذي يحزنكم؟! وما الذي يريبكم؟! وما الذي يقنطكم؟!.
قد عاد ربكم يفتح أبواب رحمته على مصاريعها بالتوبة, ويطمع في رحمته ومغفرته أهل المعاصي مهما يكونوا قد أسرفوا في المعصية, ويدعوهم إلى الأوبة إليه غير قانطين ولا يائسين, ومع الدعوة إلى الرحمة والمغفرة صورة ما ينتظرهم لو لم يئوبوا ويتوبوا، ولو لم ينتهزوا هذه الفرصة المتاحة قبل إفلاتها وفوات الأوان..
إنها الرحمة الواسعة التي تسع كل معصية, -كائنة ما كانت- وإنها الدعوة للأوبة, دعوة العصاة المسرفين الشاردين المبعدين في تيه الضلال, دعوتهم إلى الأمل والرجاء والثقة بعفو الله, إن الله رحيم بعباده, وهو يعلم ضعفهم وعجزهم, ويعلم العوامل المسلطة عليهم من داخل كيانهم ومن خارجه, ويعلم أن الشيطان يقعد لهم كل مرصد, ويأخذ عليهم كل طريق, ويجلب عليهم بخيله ورجله, وأنه جاد كل الجد في عمله الخبيث! ويعلم أن بناء هذا المخلوق الإنساني بناء واه, وأنه مسكين سرعان ما يسقط إذا أفلت من يده الحبل الذي يربطه والعروة التي تشده, وأن ما ركب في كيانه من وظائف ومن ميول ومن شهوات سرعان ما ينحرف عن التوازن فيشط به هنا أو هناك ويوقعه في المعصية وهو ضعيف عن الاحتفاظ بالتوازن السليم..
يعلم الله-سبحانه- عن هذا المخلوق كل هذا فيمد له في العون, ويوسع له في الرحمة, ولا يأخذه بمعصيته حتى يهيئ له جميع الوسائل ليصلح خطأه, ويقيم خطاه على الصراط, وبعد أن يلج في المعصية، ويسرف في الذنب، ويحسب أنه قد طرد وانتهى أمره، ولم يعد يقبل ولا يستقبل, في هذه اللحظة لحظة اليأس والقنوط، يسمع نداء الرحمة الندي اللطيف: {قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ}..
وليس بينه -وقد أسرف في المعصية، ولج في الذنب، وأبق عن الحمى، وشرد عن الطريق- ليس بينه وبين الرحمة الندية الرخية، وظلالها السمحة المحيية, ليس بينه وبين هذا كله إلا التوبة, التوبة وحدها, الأوبة إلى الباب المفتوح الذي ليس عليه بواب يمنع، والذي لا يحتاج من يلج فيه إلى استئذان{وَأَنِيبُوا إِلى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ}().
الإنابة, والإسلام, والعودة إلى أفياء الطاعة وظلال الاستسلام.. هذا هو كل شيء, بلا طقوس ولا مراسم ولا حواجز ولا وسطاء ولا شفعاء! إنه حساب مباشر بين العبد والرب, وصلة مباشرة بين المخلوق والخالق, من أراد الأوبة من الشاردين فليؤب.
ومن أراد الإنابة من الضالين فلينب, ومن أراد الاستسلام من العصاة فليستسلم, وليأت.. ليأت وليدخل فالباب مفتوح, والفيء والظل والندى والرخاء, كله وراء الباب لا حاجب دونه ولا حسيب! وهيا, هيا قبل فوات الأوان, هيا {مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ}..فما هنا لك من نصير.
هيا فالوقت غير مضمون, وقد يفصل في الأمر وتغلق الأبواب في أية لحظة من لحظات الليل والنهار, هيا.
انظر إلى آيات الرحمة كم هي مفرحة ومسعدة: {وَلاَ تَيْأَسُواْ مِن رَّوْحِ اللهِ إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ}(){وَمَن يَقْنَطُ مِن رَّحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ الضَّآلُّونَ}(){إِنَّ رَحْمَتَ اللهِ قَرِيبٌ}(){إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ}(){وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ}(){وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً}(){ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللهَ يَجِدِ اللهَ غَفُوراً رَّحِيماً}(){وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ}().
{لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ} لم يغلق بابه, لم يسدل حجابه, لم تنفد خزائنه, لم ينته فضله, لم ينقطع حبله.
انظر في أحوال هؤلاء, وكم غمرتهم رحمة ربهم, وكم نالوا السعادة من ربهم, وجدها إبراهيم -عليه السلام- في النار{قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلَى إِبْرَاهِيمَ}().
ووجدها يوسف -عليه السلام- في الجب{وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَذَا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ}().
ثم وجدها أخرى في السجن{وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ (54)قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ (55) وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ وَلا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ}().
ووجدها موسى -عليه السلام- في اليم, وهو طفلٌ رضيعٌ مجردٌ من كل قوة, ومن كل حراك{فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخَافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ}().
ثم وجدها أخرى في قصر فرعون وهو عدوٌ له متربصٌ به، يبحث عنه ليقتله، فإذا به يغذيه ويشربه في قصره {قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ}().
وقد ألقى الله عليه المحبة، فما رآه أحدٌ إلا أحبه{وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي}(). ووجدها يونس -عليه السلام- في بطن الحوت في الظلمات يوم نادى: {لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ(87) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ}().
وجدها أصحاب الكهف في الكهف حين افتقدوها في القصور والدور، فقال بعضهم لبعض: {فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرْفَقاً}().
وجدها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وصاحبه في الغار، والقوم يتعقبونهم ويقصون الآثار((ما ظنك باثنين الله ثالثهما قال: لا تحزن إن الله معنا))().
وجدها كل من أوى إلى الله يائساً من كل ما سواه، منقطعاً عن كل شبهةٍ في قوة، ومظنةٍ في رحمة، قاصداً باب الله وحده. فتفكر في رحمة الرحمن، غفر لبغي سقت كلبا، وعفا عمن قتل مائة نفس، وبسط يده للتائبين، ودعا النصارى للتوبة, لا تيأس من روح الله, ولا تقنط من رحمة الله، ولا تنس عون الله, فإن المعونة تنزل على قدر المؤونة{وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ}.
فيا حبيبي لا تحزن!, وكرر التوبة, وجدد الرجوع إلى الله رحمته واسعة, والباب مفتوح، والعفو ممنوح، وعطاؤه يغدو ويروح، والتوبة مقبولة، وحلمه كبير.
{إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ}() يعفو عن المذنب, يقبل التوبة, يقيل العثرة, يمحو الزلة, يستر الخطيئة, يتوب على التائب, ويحب الراجع{إنّ اللهَ يُحِبُّ التْوّابِينَ}().
{وَلا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ} فإن فرجه قريب, ولطفه عاجل, وتيسيره حاصل, وكرمه واسع, وفضله عام, ومغفرته شاملة, والعذر مقبول{وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ}().
{وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} يشافي ويعافي ويجتبي ويختار, ويعطي ويمنح ويأتي, ويحفظ ويتولى, ويستر ويغفر, ويحلم ويتكرم.
{فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ}() يفتح الأقفال, ويكشف الكرب الثقال, ويزيل الليالي الطوال, ويشرح البال, ويصلح الحال{سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً}(){اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْراً}().
فيا عظيم الجود..! إن الجواد من أبناء الدنيا إذا اشتهر جوده، تطلعت إليه أنظار الطامعين، ورحلت إليه ركاب الطالبين، وتعلقت به آمال المحتاجين فلا يرد سائلاً، ولا يخيب آملاً، ونحن -كما تعلم- فقراً وحاجة وشدة ومحنة، وفقرنا لا يدفعه إلا جودك، وحاجتنا لا يكفيها إلا كرمك، وشدتنا لا يزيلها إلا لطفك، ومحنتنا لا يكشفها إلا عطفك، وقد أكدت لنا في كتابك أن نسمات رحمتك تحيي ما كاد يجف من آمالنا، وبشائر مغفرتك تستر ما عظم من سيئ أعمالنا، وسريع يسرك يغلب ما تفاقم من عسرنا، وعظيم لطفك يمحو ما اشتد من آلامنا، فتداركنا بما يضمد جراحنا، ويقوي عزائمنا، ويوفقنا للسير في الطريق الذي اخترته لنا, ولا تحرمنا من عمل ننوي القيام به لخالص وجهك، ومحض مرضاتك، ولا تحجب عنا من لطائف رحمتك ما تنعش به آمال المنتمين إليك، المستجيرين بك، الداعين لك، إنك بنا رؤوف رحيم.