ما أجمل! أن يكون لك والدين في البيت, تأوي إليهما, وتأكل من أكلهما, وتنام بين حضنيهما, ما أجمل! كلمات الأب الحنونة! وكلمات الأُمّ الغالية! نعمة عظيمة, وسعادة لا تقدّر بثمن, اسأل فاقد الوالدين أو أحدهما عن تلك السعادة التي فقدها, ستشعر أنك في أتمّ النعمة بوجودهما معك.
أخي! اثنان إذا ذكرتهما ذكرت البر والمعروف والإحسان، اثنان إذا ذكرتهما تحركت في القلوب الأشجان والأحزان, اثنان إذا ذكرتهما أسعفتك بالدموع العينان، مضت أيامهما وانقضى شبابهما وبدا مشيبهما، وقفا على عتبة الدنيا وهما ينتظران منك قلباً رقيقاً، ينتظران منك براً رفيقاً، وقفا ينتظران والجنة وراءهما والجنة تحت أقدامهما، فطوبى لمن أحسن إليهما ولم يسيء إليهما، طوبى لمن برهما ولم يعقهما، طوبى لمن أضحكهما ولم يبكهما، طوبى لمن سرهما ولم يحزنهما، طوبى لمن أسعدهما ولم يشقهما، طوبى لمن أكرمهما ولم يهنهما، طوبى لمن أعزهما ولم يذلهما، طوبى لمن نظر إليهما نظرة الحنان، وتذكر ما كان منهما من البر والعطف والإحسان، طوبى لمن شمر عن ساعد الجد في رضاهما فما خرجا من الدنيا إلا وقد كتب الله له رضاهما، طوبى لمن سهر ليله, وأتعب نهاره, وأضنى جسده, في حبهما وابتغاء رضاهما{وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيماً وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً}(). ((الوالد أوسط أبواب الجنة؛ فحافظ على ذلك الباب إن شئت أو أضعه))()((رضا الرب في رضا الوالد، وسخط الرب في سخط الوالد))().
زر والديك وقف على قبريهما فكأنني بك قد نقلت إليهما
لو كنت هما وكانا بالبقاء زاراك حبوا لا على قدميهما
أنسيت عهدهما عشية أسكنا دار البلى وسكنت في داريهما
ما كان ذنبهما إليك وإنما منحاك محض الود من نفسيهما
كانا إذا ما أبصرا بك علةً جزعا لما تشكو وشق عليهما
كانا إذا سمعا أنينك أسبلا دمعيهما أسفاً على خديهما
وتمنيا لو صادفا لك راحةً بجميع ما يحويه ملك يديهما
فَلَتلْحقنَّهما غداً أو بعده حتماً كما لحقاهما أبويهما
ولتندمنَّ على فعالك مثلما ندما هما أيضاً على فعليهما
بشراك إن قدمت فعلاً صالحاً وقضيت بعض الحق من حقيهما.
كم آثرك بالشهوات على النفس, ولو غبت ساعة صارا في حبس, حياتهما عندك بقايا شمس, لقد راعياك طويلا فارعهما قصيرا{وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا}.
كم ليلة سهرا معك إلى الفجر, يداريانك مداراة العاشق في الهجر, فإن مرضت أجريا دمعا لم يجر, تالله لم يرضيا لتربيتك غير الكف والحجر سريرا{وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا}.
يعالجان أنجاسك ويحبان بقاءك, ولو لقيت منهما أذى شكوت شقاءك, ما تشتاق لهما إذا غابا ويشتاقان لقاءك, كم جرعاك حلوا وجرعتهما مريرا{وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا}.
أتحسن الإساءة في مقابلة الإحسان, أو ما تأنف الإنسانية للإنسان, كيف تعارض حسن فضلهما بقبح العصيان, ثم ترفع عليهما صوتا جهيرا{وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا}.
تحب أولادك طبعا, فأحبب والديك شرعا, وارع أصلا أثمر لك فرعا, واذكر لطفهما بك وطيب المرعى أولا وأخيرا{وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا}.
تصدق عنهما إن كانا ميتين, وصل لهما واقض عنهما الدين, واستغفر لهما واستدم هاتين الكلمتين, وما تكلف إلا أمرا يسيرا(){وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا}.
الزم قدمي أمك، فهناك الجنة، وهناك الروح والريحان، وهناك الجنان، وهنالك الأنهار، وتلك هي القصور، فباب الجنة -يا أخي- عند قدم أمك؛ فكيف ضيعت ذلك الباب؟ وكيف فرطت في الجنة وأبوابها؟.
كان أبو هريرة -رضي الله عنه- إذا أراد أن يخرج من بيته وقف على باب أمه فقال: السلام عليك يا أماه ورحمة الله وبركاته. فتقول: وعليك السلام ورحمة الله وبركاته. فيقول: رحمك الله كما ربيتيني صغيرا. فتقول: رحمك الله كما بررتني كبيرا. وإذا أراد أن يدخل صنع مثل ذلك().
قال بشر الحافي: الولد يقرب من أمه بحيث يسمع أمه أفضل من الذي يضرب بسيفه في سبيل الله, والنظر إليها أفضل من كل شيء! ().
أخي نفعك الله بي!! اعلم أنك لربما تُبتلى بوالدين تحسن إليهما ويسيئان إليك، أنت ترحمهما ويعذبانك، أن تقول لهما القول الطيب فيردان عليك بالخبيث، أن تفعل الخير بهما فيردان عليك شراً، أن تذكرهما بخير فيردان عليك بسوء، فإذا ابتلاك الله بأب لا يرحمك وأم لا ترحمك فاعلم أن أفضل البر برٌ مثل هذا، أفضل ما يكون البر إذا وجدْتَ أباً إذا أحسنت إليه أساء إليك، وأفضل ما يكون البر إذا وجدت أباً تكرمه فيهينك، وترفعه فيضعك، لا يبالي بحسنتك، إن رأى منك حسنة كفرها، وإن رأى منك سيئة أذاعها، فإذا بليت بمثل هذا فاصبر، فإن أفضل ما يكون البر في مثل هذا، فإن الله قد يريد أن يرفع درجتك ويسعدك في الحياة الدنيا والآخرة ويعظم أجرك بهذا البر فيسلط عليك أباً لا يبالي بإحسانك إليه، فأفضل ما يكون البر إذا وجدْتَ مِن الأب الإساءة، أو وجدْتَ من الأم الإساءة، فما عليك إلا أن توطّن نفسك وتصبر وتصطبر سيعوضك الله خيرا لا حساب له{إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ}().
وانظر إلى من صبر وكابد الصبر وتجرعه مرّا ماذا عوضه الله, ذكروا عن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- أنه كان أبوه شديداً عليه وكان باراً به؛ حتى إنه -رضي الله عنه- نزل بوادٍ بمكة فجمع التراب ونام وقال: كنت أرعى لأبي الخطاب في هذا الوادي الإبل وكان فظاً غليظاً يضربني.
فانظر صبر وعوضه الله أن جعله خليفة المسلمين, سبحان الله! ما أجمل العوض من الله().
اصبر وصابر، فإن كان أبوك أو كانت أمك لا تبالي بإحسانك فما هي إلا حسنات تخط في ديوانك، وإذا كان الأب يجحد البر فإن الله لا يجحده، وإذا كان الوالدان يجحدان الإحسان فإن الله لا يجحده، فما عليك إلا الصبر وما عليك إلا احتساب الأجر، وأن تحس من قلبك أن الله يريد بك خيراً حينما سلط عليك أباً لا يرحمك.
اللهم إنا نسألك بأسمائك الحسنى وصفاتك العلى أن تسبغ شآبيب الرحمات على الوالدين، اللهم اغفر لأمواتهم، اللهم اغفر لهم وارحمهم، وعافهم واعف عنهم، اللهم اجزهم عنا خير ما جزيت والداً عن ولد، اللهم اغفر لهم وارحمهم، وعافهم واعف عنهم، وأكرم نزلهم، ووسع مدخلهم، واغسلهم بالماء والثلج والبرد، اللهم أسبغ عليهم شآبيب الرحمات، وكفر عنهم الخطيئات، وارفعهم عندك في أعلى الدرجات.
اللهم من كان منهم حياً اللهم فأسعده ولا تشقه، اللهم أسعده ولا تشقه، اللهم ارحمه ولا تعذبه، اللهم أعظم أجره وكفر خطيئته ووزره، وأحسن خاتمته إنك ولي ذلك والقادر عليه.