الله -جل وعلا- خلق هذا الكون بنظام مطرد متسق، فجعل الليل لباسا، وجعل النهار معاشا، وجعل الليل لتسكنوا فيه، وجعل النهار مبصرا، وجعل للكون دورة، وللنجوم دورة، وللأفلاك دورة، وللكائنات والنباتات والموجودات دورة متناسقة، وجعل لمن يسير وفق هذا النظام المتقن السعادة، ومن نظر ببصره وقلبه، وطمع في الظفر بالسعادة، وسار في نظام الله الذي وضعه لا يميل يسرة ولا يمنة، وجد نفسه يدور في ذات الفلك، ويسير في ذات التيار، أما من مال عن هذا النظام، وأعرض عن هذا السير المرسوم، فإن له معيشة ضنكا، وحياة مليئة بالمخاوف والنكبات لإنه يدور بالاتجاه المعاكس، وقد قلب ميزان حياته، ومن اضطرب ميزان حياته، فلا تعجب إن أصابه الهمّ والغمّ والاكتئاب{فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُون}().
أوصيك -يا أخي-: اضبط وقت نومك في وقته، ولا تشغله باللعب والضحك والقيل والقال وبعد ذلك تريد السعادة, تريد السعادة ولم تسلك مسالكها، إن السفينة لا تجر على اليبسِ.
عد إلى فراشك مبكرا ستجد الحياة طيبة لذيذة، ستجد أن اليوم طويل وطويل، وتنجز في نهارك أعمالا كثيرة، أما أن تنام قبل الفجر بساعتين أو ساعة، ثم تضيع الفجر، ثم لا تستيقظ إلا قبل الظهر، وتذهب إلى الأسواق، فتجد أطيب البضاعة قد بيعت، والموظفين قد خرجوا، والناس في آخر وقت العمل لا يعطونك إلا من آخر ما في طاقتهم من البذل والعمل، ثم تضيق إذا ردوك وما أنجزوا أعمالك، أو تضيق إذا لامك مسئولك ومديرك، ثم تجلس ساعات تعض على الأقلام وتقطع الورق، وتعض أصابع الندم، وتنتظر وقت الخروج وتعود، وتجيء لتقبض راتبك وأنت في قرارة نفسك ما أديت حقه، وما قمت بواجبك، فإن ذلك كله يورث في نفسك هذه الهموم وهذه الغموم، فكن جادا منضبطا معتنيا بوقتك، محترما لنفسك، فإنك بذلك تكون سعيدا.
إن هذا الليل والنهار قد فصل الله فيه الأحوال والأحكام، وجعل الليل سكنا والنهار معاشا، جعل الليل راحة للجوارح، وطمأنينة للنفوس، واستقرارا للعيش، وجعل النهار مرتعا خصبا للأعمال، وبذل الأسباب في طلب الرزق، وإن من اعتاد سهر الليل بدون عبادة أو دون حاجة، فقد خالف الفطرة التي فطر الله الناس عليها، وحمل نفسه مالا تطيق، وأورث لها هموما وغموما، وظل حياته كئيبا حزينا لا يفتاق للكلام، ولا يجد لذة للطعام.
اعلم أن السهر الطويل يورث للنفس وهنا وفتورا للعمل، ويورث الأمراض للبدن، لاسيما المعدة فهي تغضب غضبا شديدا من السهر فتجدها ترد لك الجزاء في النهار فتعطيك قوة الضعف، وصحة المرض، وتبسم العبوس والاشمزاز، ونور الظلام والاسوداد، وزد على هذا الألم والتعب والإرهاق والكسل والعجز، وهذا أمر واقع ومجرب لأن الله قد جعل الليل لباسا، والنهار معاشا، وجعل النوم سباتا، والليل سكنا، والنهار معاشا ونشورا، فلماذا نخالف سنة الله في الحياة؟.
لا تشتري نوم النهار بالسهر ليلا فإن أهل الطب يقولون: لا يعوض نومُ النهار نومَ الليل أبدا..سبحان الله! مهما نام الإنسان في النهار لا يعوض نوم الليل؛ لأن الله جعل النهار معاشا، والليل لباسا وسباتا، والسر في ذلك -كما يقول بعض الأطباء: أن الخلايا التي في الجسم لا تنام إلا في الليل؛ لأن الشمس تغرب، فإذا غربت الشمس نامت الخلايا، أما في النهار فلا تنام بل تبقى متحركة ولو نمت أنت، ولذلك يوصون أن يكون لك ولو ساعة من الليل تنامها، وأول ما يسأل الطبيب المريض عن نومه لأن النوم أساس الراحة للجسم.
أعرف شابا من المقربين إليّ، منذ أن عرفته وهو لا يعرف نوم الليل وإن نام لم ينم إلا بعد الثالثة فجراً، ويقضي نهاره في النوم إلى قبيل العصر، وكان كثير التعصب، سريع الغضب، عنده حالة من الاكتئاب ما الله بها عليم، لا يهدأ حاله، ولا تقرُّ جوارحه إلا بتناول الحبوب المريحة للنفس، فعرضه إخوانه على أحد الأطباء وبعد إجراء الفحوصات له علم الطبيب أن حالته تحتاج طبيبا نفساني، فأوصاهم به وقال: اذهبوا إلى الطبيبة الفلانية فهي مختصة بهذا.. فأتوها، وعرضوه عليها وبدأت معه الأسئلة، بماذا تشعر? وكيف حالتك حين كذا وكذا...? حتى وصلت إليه بسؤالها له: وكم تنام في الليل? فأجابها: لا أعرف نوم الليل، لأن شغلي في النهار.. فتعجبت من هذا الجواب!! وقالت: إذن انتهت المشكلة وحصلنا على العلاج.. ثم قالت في دهشة!: لقد قلبْتَ ميزان حياتك وصنعت لنفسك مرض الاكتئاب والهموم، ألم تقرأ قول الله: {وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا (10) وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا}() وقلبت الآية فجعلت الليل معاشا والنهار سباتا، ثم قالت: هذا الخطأ الذي جنيته على نفسك وحملتها مالا طاقة لها به فأعدل الطريق فقد أخطأته..{وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ}().
انظر إلى الحيوانات والطيور أول ما تبدأ الشمس بالمغيب تأوي إلى بيوتها, فتجد الطيور في الفجر تغرد وتغني فرحا وسرورا وأنت ياسهران تحت البطانيات تمسح دموع الهم، لأنه ميزان لا ينبغي التغافل عنه ومن خالف هذا النظام فلا يلومن إلا نفسه{ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلامٍ لِلْعَبِيدِ}()إن كثيرا من الذين فشلوا في دراساتهم ليس بغباء في عقولهم، ولا بقصور في إدراكهم، ولا بعجز عن أن يبلغوا ما بلغه المعلمون من أترابهم وأمثالهم، ولكنه السهر أشغلهم بالليل فتثاقلوا عن طلب العلم في الصباح، فتعلموا على وسادة الغفلة، وعلى فرش اللهو، ثم إذا أصبح أحدهم تعلل بالمرض والتعب والألم والهم، وما إلى ذلك، فإذا جاء آخر العام تأوه وعض أصابع الندم.
ومن زرع البذور وما سقاها...تأوى نادما وقت الحصاد..