((إنما مثل الجليس الصالح والجليس السوء كحامل المسك، ونافخ الكير، فحامل المسك: إما أن يحذيك، وإما أن تبتاع منه، وإما أن تجد منه ريحا طيبة، ونافخ الكير: إما أن يحرق ثيابك، وإما أن تجد منه ريحا خبيثة))().
ما أروعه من معنى!, وما أجمله من تصوير!, تتجلى فيه البلاغة النبوية, وروعة البيان ((إن من البيان لسحرا )) () صورة حية صادقة للجليس, فالجليس الصالح هو الذي ترتاح إليه النفس, ويطمئن به الفؤاد, وتنتعش الروح طربا لحديثه, وتنعم بمجالسته, وتسعد بصحبته, إنه عند الرخاء, وزينة في الشدة, وبلسم الفؤاد, وراحة النفس.
الجليس الصالح هو من أحبك, وكان معك في الرخاء, وعادك في المرض, وكان معك في الشدائد والمحن, وعونك في الملمات وشد الأزر, من كان مرآتك الصادقة, ومقدم النصيحة الخالصة, ولا يخشى في الله لومة لائمة, وأرشدك إلى الطرق الصائبة, ورد نفسك الظالمة, وبصرك بالحقائق الغامضة, من حفظ ودك, وصان عشرتك, ولا ينقص قدرك, ويحفظ جميلك, ويعرف لك فضلك, ويعينك على صلة رحمك, وعند المقدرة عفا عنك, وعند الهفوات سامحك, وقبلك عذرك.
صحبة الصالحين بلسم قلبي ... إنها للنفوس أعظم راقي..
ما عادة المرء اللبيب لنفسه ... والمرء يصلحه جليسه الصالح.
وقد شبهه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ببائع الطيب الذي ينفحك بعطره, ويغمرك بنشره, فإما أن يهديك, وإما أن تجد عنده ريحا طيبة تسعدك, فأنت معه في ربح دائم, ونشوة غامرة, وأيضا له رائحة تشبه رائحة المسك التي إن شممتها تستريح لها أعضاء وعضلات الوجه وتنفتح لها ربوع القلب والوجدان, صحبته سعادة وراحة, كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء تؤتي أُكلها كل حين بإذن ربها, فهو كريم الطبع، مشكور الصنع، وقد حاز فضيلتي الابتداء والاكتفاء، فلا يرى ثقيلًا في نائبة، ولا يقعد عن نهضة في معونة. فينبغي لمن أوجد الزمان مثله -وقل أن يكون له مثل؛ لأنه البر الكريم والدر الثمين- أن يثني عليه خنصره، ويعض عليه ناجذه، ويكون به أشد ضنا منه بنفائس أمواله وسني ذخائره؛ لأن نفع الإخوان عام، ونفع المال خاص، ومن كان أعم نفعًا فهو بالادخار أحق.
أما الصاحب السيئ والجليس السوء, فليس هناك أبلغ من تشبيهه بالحداد الذي ينفخ بكيره فأنت معه في خسارة دائمة, فإما أن يحرّق ثيابك بناره, أو يحرقك بشراره, فصحبته كلها أحزان, هموم وغموم وأكدار, والحياة معه ليس لها استقرار, كشجرة خبيثة ما لها من قرار.
عليك بأهل الخير إن شئت صحبة ... ففي صحبة الأخيار تلقى الفوائد
فمن جالس العطار طاب بطيبه ... ومن جالس الحداد لاقى السوائد.
إن من أسباب السعادة أن تجد من تنفعك صحبته، وتسعدك رفقته, وتسرك رؤيته, وتفرح لجيئته وتنزعج لفرقته ((أين المتحابون في جلالي، اليوم أظلهم في ظلي يوم لا ظل إلا ظلي)) () ((ورجلان تحابا في الله، اجتمعا عليه وتفرقا عليه)) ().
اختر لك صاحبا يشعرك بالمؤانسة، شعور بشيء من الأمان والانبساط، فينطلق اللسان، حتى يفضي ذلك إلى الانشراح والسرور والتآنس, وعشرته كالغذاء يشبعك, وكالماء يرويك, فهو صديق مشفق ودود حنون، يؤلمه ما يؤلمك، ويسره ما يسرك، ويجوّع نفسه لجوعك، ويتعرى لعريك، ويكابد ما نزل بك أكثر من مكابدة ما نزل به{وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ إِخْوَانًا}().
ما ذاقت النفس على شهوة ... ألذ من حب صديق أمين
من فاته ود أخ صالح ... فذلك المغبون حق اليقين.
روي عن عمر بن الخطاب أنه قال: عليك بإخوان الصدق، فعش في أكنافهم؛ فإنهم زين في الرخاء، وعدة في البلاء().
وقال بعض الحكماء: اصطف من الإخوان ذا الدين والحسب والرأي والأدب؛ فإنه ردء لك عند حاجتك، ويد عند نائبتك، وأنس عند وحشتك، وزين عند عافيتك.
وقال جعفر بن محمد لابنه: يا بني! من غضب من إخوانك ثلاث مرات فلم يقل فيك سوءًا فاتخذه لنفسك خلا().
وروي أن رجلًا قال لابنه: أي بني! لا تؤاخ أحدًا حتى تعرف موارد أموره ومصادرها، فإذا استطبت منه الخبر ورضيت منه العشرة فآخه على إقالة العثرة والمواساة عند العسرة.
وقال رجل لداود الطائي: أوصني، قال: اصحب أهل التقوى؛ فإنهم أيسر أهل الدنيا عليك مؤنةً، وأكثرهم لك معونةً.
وقال بعض الأدباء: لا تصحب من الناس إلا من يكتم ويستر عيبك، ويكون معك في النوائب، ويؤثرك في الرغائب، وينشر حسنتك، ويطوي سيئتك، فإن لم تجده فلا تصحب إلا نفسك.
وقيل لأعرابي: من أكرم الناس عشرةً؟ قال: من إن قرب منح، وإن بعد مدح، وإن ظلم صفح، وإن ضويق سمح، فمن ظفر به فقد أفلح وأنجح().
وقيل لابن السماك -محمد بن صبيح-: أي الإخوان أحق بإبقاء المودة؟ قال: الوافر دينه، الوافي عقله، الذي لا يملّك على القرب، ولا ينساك على البعد، إن دنوت منه داناك، وإن بعدت عنه راعاك، وإن استعنت به عضدك، وإن احتجت إليه رفدك، وتكون مودة فعله أكثر من مودة قوله.
إن أخاك الصدق من كان معك ... ومن يضر نفسه لينفعك
ومن إذا ريب الزمان صدعك ... شتت فيك شمله ليجمعك.
وقيل لخالد بن صفوان: أي إخوانك أحب إليك؟ قال: الذي يسد خلتي، ويغفر زلتي، ويقبل عثرتي().
وروي عنه -أيضًا- أنه قال: اصحب من ينسى معروفه عندك، ويذكر حقوقك عليه.
وقيل: اصحب من إذا صحبته زانك، وإذا خدمته صانك، وإذا أصابتك خصاصة مانك، وإن رأى منك حسنةً سر بها، وإن رأى منك سقطةً سترها، ومن إذا قلت صدق قولك، ومن هو فوقك في الدين ودونك في الدنيا. وكل أخ وجليس وصاحب لا تستفيد منه في دينك خيرًا فانبذ عنك صحبته.
وأوصى رجل ابنه، فقال: يا بني! اصحب من إذا غبت عنه خلفك، وإن حضرت كنفك، وإن لقي صديقك استزاده لك، وإن لقي عدوك كفه عنك().
فصاحب تقيا عالمًا تنتفع به ... فصحبة أهل الخير ترجى وتطلب.
وقيل لأعرابي: أي شيء أمتع؟ قال: ممازحة محب، ومحادثة صديق.
وقال بعض الأدباء: أفضل الذخائر: أخ وفي.
وروي عن محمد بن واسع أنه قيل له: أي العمل في الدنيا أفضل؟ قال: صحبة الأصحاب ومحادثة الإخوان إذا اصطحبوا على البر والتقوى.
وقال بعض البلغاء: صديق مساعد: عضد وساعد.
وقيل لأعرابي: أبِالصديق أنت آنسٌ أم بالعشيق؟ فقال: يا هذا! الصديق لكل شيء؛ للجد والهزل، وللقليل والكثير، وهو روضة العقل وغدير الروح، أما العشيق؛ فإنما هو للعين، وفي الولوع به إفراط مزجور عنه، فأين هذا من ذاك؟!.
وقال المغيرة بن شعبة: التارك للإخوان متروك.
وقال الخليل بن أحمد: الرجل بلا صديق كاليمين بلا شمال.
وقال علي لابنه الحسن: يا بني! الغريب: من ليس له حبيب.
وقال ابن المعتز: من اتخذ إخوانًا كانوا له أعوانًا.
وقال ابن الجلاء: من لا إخوان له فلا عيش له.
وقال جعفر بن محمد: مناغاة الصديق أعبث بالروح وأندى على الفؤاد من مغازلة المعشوق؛ لأنك تفزع بحديث المعشوق إلى الصديق، ولا تفزع بحديث الصديق إلى المعشوق().
كذلك حتى يتمّ لك الأمر الذي تسعى إليه وهو نيل السعادة في شمِّ رائحة المسك من حامله, وسرور القلب, وانشراح الصدر, فلابد لك من رد الديْنِ الذي عليك تجاه جليسك الطيب, فتبدله الذي يعطيك, وعند شدته قبل أن يدعيك, وكانت الحكماء تقول: إن مما يجب للأخ على أخيه: مودته بقلبه، وتزيينه بلسانه، ورفده بماله، وتقويمه بأدبه، وحسن الذب والمدافعة عنه في غيبته.
وقال ابن المقفع: ابذل لصديقك دمك ومالك، ولمعرفتك رفدك ومحضرك، وللعامة بشرك وتحننك، ولعدوك عدلك وإنصافك.
وقيل لأحدهم: من صديقك؟ قال: الذي إذا صرت إليه في حاجة وجدته أشد مسارعةً إلى قضائها مني إلى طلبها.
وقد حكي أن رجلًا لقي صاحبًا له، فقال له: إني أحبك، فقال: كذبت؛ لو كنت صادقًا ما كان لفرسك برقع وليس لي عباءة.
وإن كان الصديق قليل مال ... يضيق بذرعه ما في يديه
فمن أسنى فعال المرء أن لا ... يضن على الصديق بما لديه().