إني أرى دموع حزنك على خدك حين تطلع على قوم في مجلس فلا يلقوا لك اعتبارا, ولا يردوا لك تحية، ولربما رأيت الأبصار حادة، والوجوه غابرة، والألسن صامته، والقلوب عنك مشغولة، فأقول لك: لا تحزن!!
لا تحزن إن لم يقدروك، ولم يهتموا بدخولك، ولم يعطوك وجوههم، فكم من مجهول في الأرض مشهورا في السماء، وكم من مشهور في الأرض لا يُعرف في السماء..
لا تحزن!! فإﻥ اﻟﻠﻪ ﻳﺤﺐ ﻣﻦ ﺧﻠﻘﻪ اﻷﺻﻔﻴﺎء اﻷﺗﻘﻴﺎء اﻷﺧﻔﻴﺎء، اﻟﺸﻌﺜﺔ ﺭﺅﻭﺳﻬﻢ، اﻟﻤﻐﺒﺮﺓ ﻭﺟﻮﻫﻬﻢ، ﺑﻄﻮﻧﻬﻢ ﻣﻦ ﻛﺴﺐ اﻟﺤﻼﻝ ﺧﻤﻴﺼﺔ، اﻟﺬﻳﻦ ﺇﺫا اﺳﺘﺄﺫﻧﻮا ﻟﻢ ﻳُﺆﺫﻥ ﻟﻬﻢ، ﻭﺇﻥ ﺧﻄﺒﻮا ﻟﻢ ﻳﻨﻜﺤﻮا، ﻭﺇﻥ ﻏﺎﺑﻮا ﻟﻢ ﻳُﻔﺘﻘﺪﻭا، ﻭﺇﻥ ﺣﻀﺮﻭا ﻟﻢ ﻳُﺪﻋﻮا، ﻭﺇﻥ ﻃﻠﻌﻮا ﻟﻢ ﻳُﻔﺮﺡ ﺑﻄﻠﻌﺘﻬﻢ، ﻭﺇﻥ ﻣﺮﺿﻮا ﻟﻢ ﻳُﻌﺎﺩﻭا، ﻭﺇﻥ ﻣﺎتوا لم يُشهدوا..
لا تحزن إن كنت عند قومٍ رجل رخيص، فربما أنت عند آخرين غالي وعند الله أغلا..
فشهرتك لا تعني أنك سعيد مسرور، فإني رأيتُ أكثر الأشقياء هم من أهل الشهرة. فانظر إلى المغنيين والمغنيات، والمسرحيين والمسرحيات، والممثلين والممثلاث، والراقصين والراقصات، الأحياء منهم والأموات، صحيح أن التاريخ خلّد أصواتهم وأفلامهم ولكن أيّ سعادة لاقوها، وأيّ راحة اراتحت بها قلوبهم، هؤلاء هم أهل الشهرة في الأرض..
أما الشّهرة في السّماء شهرة يحظى صاحبها بالقرب والرّضا والذّكر عند الله، فيعيش دنياه مرتاح البال، قرير العين، يجعل الله له من ضيق فرجا، ومن كلّ همّ مخرجا، ويرزقه من حيث لا يحتسب، كلامه مسموع، ودعاؤه مُجاب، وأمله مُنال، ما أن يرفع يديه إلى السّماء ويدعو ربّه، حتى تقول الملائكة: صوت معروف من عبد معروف.
تأمّل وتفكّر ما أروع أن تقول الملائكة عن صوتك في الملأ الأعلى إنّه صوت معروف، وتقول عنك إنّك عبد معروف، في الوقت الذي لا يكاد يعرفك فيه سوى قلة من أقاربك وجيرانك!!، ربّما لا يكون بين أهل الأرض ممّن هم حولك من يسمع صوتك ويهتمّ برأيك، لكنّ أهل السّماء يسمعون صوتك، ويهتمّون بدعائك وندائك ورجائك.
الموازين والمعايير في السّماء ليست هي دومًا موازين ومعايير الأرض؛ قد يكون أهل الأرض يهتمّون بك ويجلّونك ويقدّمونك ولكنّك بين أهل السّماء لا تساوي شيئا.. ربّما تمتلئ نفسك كبرا وتظنّ أنّك تملأ ما بين الخافقين وأنت عند الله لا تساوي جناح بعوضة، وربّما تظنّ أنّك خير وأفضل من جميع من هم حولك وتمرّ بالرّجل الفقير بسيارتك فيستوقفك فلا تتوقّف عنده وتزدريه، لكنّه عند الله خير من ملء الأرض من أمثالك.. وفي المقابل، ربّما تكون متواضع الحال عِلما ومالا ومنصبا، وربّما تكون فقيرا معدما، وتشعر بأنّ النّاس من حولك معرضون عنك لا يأبهون بك، ولا يهتمون بك، لكنّك عظيم عند الله، يقول النبيّ -صلّى الله عليه وآله وسلّم-: ((ربَّ أشعث أغبر مدفوع بالأبواب، لو أقسم على الله لأبرَّه))().
ما هو مسطّر لك في أذهان النّاس ويجري على ألسنتهم عنك، قد يسطّر لك عكسه في الصّحيفة وفي الميزان عند الله، وقد يقال عنك ضدّه بين الملائكة المقرّبين؛ فأنت الذي في الأرض قد لا تكون أنت الذي في السّماء.
فلا تحزن لقلة شهرتك في الأرض ولا تهتمّ بالشّهرة بين النّاس وفي هذه الدّنيا الفانية، وعلى ظهر هذه الأرض الزائلة.. اهتمّ بمقامك في الملأ الأعلى.. اهتمّ بما يقوله عنك ربّ العزّة -جلّ وعلا-.. اهتمّ بما يقوله عنك الملائكة المقرّبون.. جاهد نفسك على إخلاص أقوالك وأعمالك وأحوالك لله، واحرص على إخفاء ما يمكنك إخفاؤه منها.. اجعل بينك وبين الله أسرارا من الأعمال والأقوال والأحوال الصّالحة لا يطّلع عليها إلا الله.. لا تهتمّ بما يقوله عنك النّاس فكلام الناس لك أو عليك لا يُسمن ولا يغني من جوع، احرص على الإخلاص، وتأكّد من أنّ الله لن يضيّع عملك.. الدّنيا شأنها حقير, والعمر قصير، لكنّه يطول بالنية الصّالحة الصّادقة، وازرع الخير مهما رأيته هيّنا وقليلا، ولا تنتظر شكرا من أحد، وانتظر جزاءك من الواحد الأحد.. ازرع الخير في زوجتك وأبنائك وفي أصدقائك وخلانك بكلماتك ومواقفك، وكن على يقين بأنّه سيثمر يوما ما -بإذن الله-{فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّيلَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى}().
ذكر ابن كثير في تاريخه: أنّ السائب بن الأقرع قدم على أمير المؤمنين عمر بن الخطاب يبشره بنصر المسلمين في معركة "نهاوند" ضدّ الفرس في السّنة الواحد والعشرين للهجرة، فسأله عمر عن قتلى المسلمين، فعدَّ فلاناً وفلاناً من أعيان الناس وأشرافهم، ثم قال لعمر: وآخرون من أفناد الناس لا يعرفهم أمير المؤمنين.. فجعل عمر يبكي ويقول: وما ضرهم ألا يعرفهم أمير المؤمنين؟! لكن الله يعرفهم، وقد أكرمهم بالشهادة، وما يصنعون بمعرفة عمر؟!().
ماتت عجوز على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كانت تَقُمُّ المسجد -أي تنظفه وتطيّبه-، ما كان أكثر المسلمين يعرفونها أو يعرفون اسمها، لكن لعلّها كانت صاحبة شأن بين أهل السّماء؛ ماتت فصلّى عليها النّاس ودفنوها ولم يُؤْذِنُوا بها النبيَّ -صلى الله عليه وسلم-، فلمّا علم بوفاتها بعد أيام عتب أصحابه وقال لهم: ((أفلا آذنتموني))()، ثمّ ذهب إلى قبرها فصلى عليها.. أيّ مكانة هذه التي حازتها تلك المرأة في السّماء حتّى يؤمر خاتم الأنبياء بأن ينطلق إلى قبرها ليصلّي عليها ويجزل لها الدّعاء؟! ما ضرّها أنّ أصحاب السير اختلفوا في اسمها، ما دامت معروفة في السّماء بصوتها وعملها..
فاحرص على الشهرة في السماء، وكن ذهبا في سوق الآخرة، حتى ولو كنت نحاسا في سوق الدنيا, فالعبرة في حسن البضاعة, لا في شهرة التاجر.