أفرغ قلبك من الهموم, ونقّه من شوائب الأكدار, واكسر منه شوكة الأحزان, ولا تشغله بما ضُمِن لك، فإن الرزق والأجل قرينان مضمونان، فما دام الأجل باقيا كان الرزق آتيا.
وإذا أغلق الله عليك بابا فتح لك ألف باب, وإذا سدَّ عليك بحكمته طريقا من طرقه, فتح لك برحمته طريقا لك منه{وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ}().
فلا تحزن مِن تأخّر الرزق, ولا تضجر من ضيق العيش, فرزقك مقسوم, وأجلك محتوم, ولن تموت نفسٌ حتى تبلغ أجلها{وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ الله كِتَاباً مُّؤَجَّلاً}().
فإن الرزاق هو الواحد الأحد، فعنده رزق العباد، وقد تكفل بذلك{وَفِي السَّمَاء رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ}().
وإذا كان الله هو الرزاق فلِم يتملَّق البشر؟!، ولم تُهان النفس في سبيلِ الرزق لأجل البشر؟! قال الله: {وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللهِ رِزْقُهَا}().
الدودة في الطين يرزقها رب العالمين{وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللهِ رِزْقُهَا}.
الطيور في الوكور يطعمها الغفور الشكور((كما يرزق الطير، تغدو خِماصا وتروحُ بطاناً)) ().
السمك في الماء يرزقه رب الأرض والسماء{يُطْعِمُ وَلاَ يُطْعَمُ}().
وأنت أزكى من الدودة والطير والسمك، فلا تحزن على رزقك{وَفِي السَّمَاء رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ}.
فسبحان الخالق الرازق، أعطى الدودة رزقها في الطين، والسمكة في الماء، والطائر في الهواء، والنملة في الظلماء، والحية بين الصخور الصماء.
ذكر ابن الجوزي لطيفة من اللطائف: أن حية عمياء كانت في رأس نخلة، فكان يأتيها عصفور بلحم في فمه، فإذا اقترب منها ورور وصفر، فتفتح فاها، فيضع اللحم فيه سبحان من سخر هذا لهذه{وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُم}().
وإذا ترى الثعبان ينفث سمه ... فاسأله من ذا بالسموم حشاكا
واسأله كيف تعيش يا ثعبان أو ... تحيا وهذا السم يملأ فاكا().
وتأمل حالك يوم أن كنت جنينا يأتيك غذاؤك، وهو الدم، من طريق واحد وهو السرة، فلما خرجت من بطن أمك انقطع ذلك الطريق, وفتح الله لك طريقين اثنين وأجرى لك فيهما رزقا أطيب وألذُّ من الأول لبنا خالصا سائغاً، فإذا تمت مدة الرضاع وانقطع الطريقان بالفطام, فتح لك طرقاً أربعة أكمل منها: طعامان وشرابان. فالطعامان من الحيوان والنبات، والشرابان من المياة والألبان وما يضاف إليهما من المنافع والملاذ.
فإذا ما انقطعت عنك هذه الطرق الأربعة، لكنه –سبحانه وتعالى- فتح لك -إن كنت سعيداً- طرقا ثمانية وهي أبواب الجنة تدخل من أيها شئت. فهكذا الرب –سبحانه- لا يمنع عبده المؤمن شيئا من الدنيا إلا ويؤتيه أفضل منه وأنفع له, وليس ذلك لغير المؤمن, فإن يمنعه الحظ الأدنى الخسيس, ولا يرضى له به ليعطيه الحظ العلى النفيس، والعبد لجهله بمصالح نفسه وجهله بكرم ربه وحكمته ولطفه لا يعرف التفاوت بين ما منع منه وما ذخر له.
أما آن للعبد أن يعلم أن فضل الله عليه فيما منعه من الدنيا ولذاتها ونعيمها أعظم من فضله عليه فيما آتاه من ذلك، فما منعه إلا ليعطيه, ولا ابتلاه إلا ليعافيه، ولا امتحنه إلا ليصافيه، ولا أماته إلا ليحييه، ولا أخرجه إلى هذه الدار إلا ليتأهب منها للقدوم عليه وليسلك الطريق الموصلة إليه.
والذي يستعجل نصيبه من الرزق، ويبادر الزمن، ويقلق من تأخر رغباته، كالذي يسابق الإمام في الصلاة، ويعلم أنه لا يسلّم إلا بعد الإمام! فالأمور والأرزاق مقدرة، فرغ منها قبل خلق الخليقة، بخمسين ألف سنة{أَتَى أَمْرُ اللهِ فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ}().
{فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ}() فعنده الخزائن، ولديه الكنوز، وبيده الخير, وهو الجواد المنان الفتاح العليم.
{وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُم}() إنَّ صاحب الخزائن الكبرى -جلّ في علاه- قد تكفَّل بالرزق، فلِم القلق, والزعيمُ والمتكفل بذلك هو اللهُ؟!.
{وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلاَدَكُم مِّنْ إمْلاَقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ}() لتعلم البشريّة أن رازق الوالدِ الذي قد يقتل ولده سبب الفقر هو الذي لم يلد ولمْ يولد().
فيا أخي إن أردت الرزق، أو أردت المال, أو أردت ربح التجارة, فعليك بالطاعة، وإن أحببت الصحة في بدنك فعليك بالطاعة، وإن أردت الأولاد والذرية فعليك بالطاعة{اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً (10) يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً (11) وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَاراً}(){وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56) مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ (57) إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ}() الرزق مكفول، والعمر محدود، والإمكانات موفرة، والمنهج واضح، والطريق مستقيم، وأنت مأمورٌ أن تسير على هذا المنهج، وأن تواصل السير على هذا الطريق المستقيم.
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (21) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ}() نعمة الخلق والإيجاد، نعمة الرزق والإمداد, نعمة العافية والإسعاد, نعمة الإيمان، كل النعم من الله -تبارك وتعالى-, فلا تحزن! ولا تضجر! وأقبِل على المُنعم يرزقك من نِعمه.
قال الإمام ابن القيم: فرِّغ خاطرك للهمِّ بما أمرت به، ولا تشغله بما ضُمِنَ لك، فما دام الأجل باقياً كان الرزق آتياً، وإذا سد الله عليك بحكمته طريقاً من طرقه فتح لك برحمته طريقاً أنفع لك منه وأكمل().