اعلم أنك لست مصاب وحدك فالكل يشكو أمره, ويبكي عصره, ويندب أمره, وقد أنهى بالهموم عمره.
إذا أردت أن تعرف حقيقة السعادة التي تغطي قلبك دون أن تشعر بوجودها فاذهب إلى المستشفيات ففيها دواء الأحزان وسعادة النفس, فكم فيها من مشلول, ومجروح, ومكسور, ومعوّق, وأعمى, وأصور, وأبكم, وكم فيها ممن يتنفس عبر أنبوب غاز..
فالأعمى يتمنى أن يشاهد العالم, والأصم يتمنى سماع الأصوات, والمقعد يتمنى المشي خطوات, والأبكم يتمنى أن يقول كلمات, وأنت تشاهد وتسمع وتتكلم فاحمد الله الذي ابتلاهم وعافاك.
ذكر أبو الفرج ابن الجوزي بإسناده عن عبد الله بن زياد، قال: حدثني بعض من قرأ في الكتب: أن ذا القرنين، لما رجع من مشارق الأرض، ومغاربها، وبلغ أرض بابل، مرض مرضاً شديداً، فلما أشفق أن يموت، كتب إلى أمه: يا أماه، اصنعي طعاماً، واجمعي من قدرت عليه، ولا يأكل طعامك من أصيب بمصيبة، واعلمي هل وجدت لشيء قراراً باقياً، وخيالاً دائماً؟! إني قد علمت يقيناً، أن الذي أذهب إليه خير من مكاني، قال: فلما وصل كتابه، صنعت طعاماً، وجمعت الناس، وقالت: لا يأكل هذا من أصيب بمصيبة، فلم يأكلوا، فعلمت ما أراد، فقالت: من يبلغك عني أنك وعظتني فاتعظت، وعزيتني فتعزيت، فعليك السلام حياً وميتاً().
فإذا علم المصاب أنه لو فتش العالم، لم ير فيهم إلا مبتلى، إما بفوات محبوب، أو حصول مكروه، فسرور الدنيا أحلام نوم، أو كظل زائل، إن أضحكت قليلا أبكت كثيراً، وإن سرت يوماً ساءت دهراً، وإن متعت قليلاً منعت طويلاً، وما ملأت داراً حبرةً إلا ملأتها عبرةً, وما حصلت لشخص في يوم سروراً، إلا خبأت له في يوم شروراً.
فلا تحزن لموت ولدك!, فغيرك مات كل أولادة بلحظة واحدة. ولا تحزن لتقلّب سيارتك! فغيرك انهدم البيت فوقه وأهل بيته جميعا. ولا تحزن لأنك فشلت في المدرسة! فغيرك لم يعرف الطلوع إلى الصفوف العلياء. ولا تحزن إنك طلقت زوجتك! فغيرك ماتت زوجته. ولا تحزن أنك لم تتزوج بعد! فغيرك لن يستطيع الزواج طيلة حياته لمرض حل به.
أوصيك أن تقوم بعمل جولة حول بلاد اليمن مثلا –حفظ الله أهلها– وتأخذ معك عداد يعد لك المبتلين والمصابين والمنكوبين والمجروحين, وانظر إلى أين يصل العدد؟ على ظني أن العداد سينفجر؛ لأنه لن يستطيع إحصاء عدد المبتلين, فاحمد الله –تعالى- الذي عافاك من بين هؤلاء المبتلين, وحفظ أولادك وحفظ سيارتك وحفظ أهل بيتك أجمعين.
تلفت يمنة ويسرة، فهل ترى إلا مبتلى؟ وهل تشاهد إلا منكوبا؟, في كل دار نائحة، وعلى كل خد دمع، وفي كل واد بنو سعد.
كم من المصائب، وكم من الصابرين، فلست أنت وحدك المصاب، بل مصابك أنت بالنسبة لغيرك قليل، كم من مريض على سريره من أعوام، يتقلب ذات اليمين وذات الشمال، يئن من الألم، ويصيح من السقم.
كم من محبوس مرت به سنوات ما رأى الشمس بعينه، وما عرف غير زنزانته.
كم من رجل وامرأة فقدا فلذات أكبادهما في ميعة الشباب وريعان العمر.
كم من مكروب ومدين ومصاب ومنكوب.
كم من مفارق لحبيبه, وكم من أرملة فارقت زوجها, وكم من يتامى مات والدهم, وكم ممن يود لو يضحي بماله كله من أجل أن يُرزق ذرية, وكم من شاب طلق زوجته, وكم من فتاة مات خطيبها, وكم من ولد صغير يبكي على موت أخيه الذي كان يلعب معه طيلة الوقت, وكم من طفلة تصرخ وتصيح أين أخي؟! أين أُمّي؟! أين أبي؟!, وكم من امرأة مات أولادها في ساعة واحدة, وكم من أبٍ عزم على تزويج ولده فمات الولد قبل أن يرى خطيبته, وكم من قتلى وجرحى في دول الإسلام, وكم من أسرى, وكم من مسجونين, وكم من مُخْتطفين, وكم من ضائعين لا يُعلم عنهم شيء, وكم من مديون أراح نفسه بقتلها, وكم من مديون ما يخرج من بيته خوفا من أن يطلبوه, وكم من مديون قضى عمره في سجن المحاكمة, وكم من مريض طاف المشرق والمغرب فلم يجد علاجا لمرضه, وكم من فقير ربط الحجارة على بطنه من شدة جوعه, وكم ...وكم... {فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ}().
نوح -عليه السلام-, يؤذى ألف عام إلا خمسين عاما في سبيل دعوته.. إبراهيم, يُلقى في النار, ويُأمر بذبح ولده, وترك أهله في أرض لا أنيس فيها ولا جليس.. موسى, يخرج من مصر خائفا يترقب, ويجلس تحت ظل الشجرة لا زاد ولا ماء ولا مال, وفرعون يتربص به الدوائر، ويحيك له المكائد، ويتفنن في إيذائه ويطارده يرى البحر أمامه والعدو خلفه.. عيسى, يحاربه بنو إسرائيل، ويؤذونه في سمعته وأمه ورسالته, ويريدون قتله.. ولك في رسول الله –صلى الله عليه وسلم– أشدّ التعزية, يؤذيه المشركون واليهود والنصارى أشد الإيذاء, ويذوق صنوف البلاء، من تكذيب ومجابهة, ورد واستهزاء وسخرية, وسب وشتم واتهام بالجنون والكهانة والشعر والسحر والافتراء, ويطرد, ويُحارب ويُقتل أصحابه, وينكل بأتباعه, ويتهم في زوجته، ويذوق أصناف النكبات، ويهدد بالغارات، ويمر بأزمات, ويجوع ويفتقر، ويجرح، وتكسر ثنيته، ويشج رأسه, ويفقد عمه أبا طالب الذي ناصره, وتذهب زوجته خديجة التي واسته, ويُحصر في الشعب حتى يأكل هو وأصحابه أوراق الشجر, وتموت بناته في حياته, وتسيل روح ابنه إبراهيم بين يديه, ويغلب في أحد, ويمزق عمه حمزة, ويتعرض لعدة محاولات اغتيال, ويربط الحجر على بطنه من الجوع ولا يجد أحيانا خبز الشعير ولا رديء التمر, ويذوق الغصص ويتجرع كأس المعاناة, ويزلزل مع أصحابه زلزالا شديدا وتبلغ قلوبهم الحناجر, وتعكس مقاصده أحيانا، ويبتلى بتيه الجبابرة, وصلف المتكبرين, وسوء أدب الأعراب, وعجب الأغنياء، وحقد اليهود، ومكر المنافقين، وبطء استجابة الناس..
وهذا أبو بكر, ضُرب وأُوذي وتحمّل.. وهذا عمر, يُطعن في محرابه بسكين على ظهره والدماء سالت من وجهه.. وهذا عُثمان, يُحاصر في بيته ويُسجن في بيته وأقاموا عليه الدنيا وذبحوه في بيته.. وهذا علي, يُغتال في مسجده.. وهذا الحسين, يُقتل مظلوما.. وهذا أحمد بن حنبل, قضى معظم وقته مسجونا وعُذّب وجُلِد.. وهذا ابن تيمه, يُسجن ويُمنع من أقاربه, ويُمنع من كُتبه.. وكم في تاريخ البشرية ممن ذاقوا وطعموا طعم المصائب, فما هي مصيبتك أمام هذه المصائب؟ وما هي حادثتك أمام تلك الحوادث؟ فمرضك يسيرٌ بالنسبة لمن طاف المشرق والمغرب فلم يجد علاجا!؟ وما هو فقرك أمام من ربط الحجر على بطنه من الجوع!؟ وما هو حزنك بالنسبة لمن ذهب بصره ومات ولده وطلقت زوجته!؟ وما ضيق عيشك بالنسبة لمن هدمت عمائرهم وفللهم وقصورهم!؟ فمرضك لا يُسمّى مرضا, وفقرك لا يُسمى فقرا, وحزنك لا يُسمى حزن..
أما آن لك أن تتعز بهؤلاء، وأن تعلم علم اليقين أن هذه الحياة سجن للمؤمن، ودار للأحزان والنكبات، تصبح القصور حافلة بأهلها وتمسي خاوية على عروشها، بينها الشمل مجتمع، والأبدان في عافية، والأموال وافرة، والأولاد كثر، ثم ما هي إلا أيام فإذا الفقر والموت والفراق والأمراض{وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ الأَمْثَالَ}() فعليك أن توطن مصابك بمن حولك، وبمن سبقك في مسيرة الدهر، ليظهر لك أنك معافى بالنسبة لهؤلاء، وأنه لم يأتك إلا وخزات سهلة، فاحمد الله على لطفه، واشكره على ما أبقى، واحتسب ما أخذ، وتعز بمن حولك, يرتاح بالك, وتهدأ نفسك, ويطمئن قلبك.