اعلم إن الميزان الذي يُقاس به المرء, ليس الشكل والمظهر, أو السكن والملبس, أو مما يقيس به جمع غفير من الناس في زماننا هذا. كلا –ورب الكعبة- إن المقياس الذي يُقاس به المرء هو: تقواه وصلاحه, بغضّ النظر عن لباسه وأكله وشربه وجماله وأصله وفصله وحسبه ونسبه, اللهمّ إلا أن هذا زيادة خير إلى تقواه{إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ}().
لا فرق بين أعجمي وعربي، وأبيض وأسود، وأصفر وأحمر، لا فرق بين مديرٍ وعامل نظافة، لا فرق بين غنيٍ وبين فقير؛ إلا بالتقوى والعمل الصالح.
لا تحتقر أحدا على ظاهره فالباطن لا تعلمه, قد يكون باطنه أتقى منك, وأطهر قلبا, وأخلص نية, وأزكى عملا, ويكون هو أقرب لله منك, وأنت لا تشعر ولا تدري.
مرّ هذا الرجل الفقير المعدوم، وعليه أسمال بالية وثياب رثة، جائع البطن، حافي القدم، مغمور النسب، لا جاه ولا مال ولا عشيرة، ليس له بيت يأوي إليه، ولا أثاث ولا متاع، يشرب من الحياض العامة بكفيه مع الواردين، وينام في المسجد، مخدته ذراعه، وفراشه البطحاء، لكنه صاحب ذكر لربه, وتلاوة لكتاب مولاه, لا يغيب عن الصف الأول في الصلاة والقتال، مرّ ذات يوم برسول الله -صلى الله عليه وسلم- فناداه باسمه وصاح به: ((يا جليبيب ألا تتزوج؟)) . قال: يا رسول الله!، ومن يزوجني ولا مال ولا جاه؟! ثم مرّ به أخرى، فقال له مثل قوله الأول، وأجاب بنفس الجواب، ومرّ ثالثة، فأعاد عليه السؤال وأعاد هو الجواب، فقال -صلى الله عليه وسلم-: ((يا جليبيب، انطلق إلى بيت فلان الأنصاري وقل له: رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقرئك السلام، ويطلب منك أن تزوجني بنتك)).
وهذا الأنصاري من بيت شريف وأسرة موقرة، فانطلق جليبيب إلى هذا الأنصاري وطرق عليه الباب وأخبره بما أمره به رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال الأنصاري: على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- السلام، وكيف أزوجك بنتي يا جليبيب ولا مال ولا جاه؟ وتسمع زوجته الخبر فتعجب وتتساءل: جليبيب! لا مال ولا جاه؟ فتسمع البنت المؤمنة كلام جليبيب ورسالة الرسول -صلى الله عليه وسلم- فتقول لأبويها: أتردان طلب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-. لا والذي نفسي بيده.
وحصل الزواج المبارك والذرية المباركة والبيت العامر، المؤسس على تقوى من الله ورضوان، ونادى منادي الجهاد، يا خيل الله اركبي, وحضر جليبيب المعركة، وقتل بيده سبعة من الكفار، ثم قُتل في سبيل الله، وتوسد الثرى راضيا عن ربه وعن رسوله -صلى الله عليه وسلم- وعن مبدئه الذي مات من أجله، ويتفقّد الرسول -صلى الله عليه وسلم- القتلى، فيخبره الناس بأسمائهم، وينسون جليبيبا في غمرة الحديث، لأنه ليس لامعا ولا مشهورا، ولكن الرسول -صلى الله عليه وسلم- يذكر جليبيبا ولا ينساه، ويحفظ اسمه في الزحام ولا يغفله، ويقول: ((لكنني أفقد جليبيبا)).
ويجده وقد تدثر بالتراب، فينفض التراب عن وجهه ويقول له: ((قتلت سبعة ثم قُتلت! أنت مني وأنا منك، أنت مني وأنا منك، أنت مني وأنا منك)) ().
ومات راضيا عن نفسه وقد رضي الله عنه.