لم أرى بعيني, ولم اسمع بأذني, خبرا يحكي حُبّا لأحد بعد الله, كحب الصحابة لنبيهم رسول الله -صلى وسلم عليه الله-, لا قوما مع نبيهم, ولا عشيرة مع سيدهم, ولا شعبا مع رئيسهم.
أحبوه أجمل الحبّ, وحملوه أجلّ الحمل, وفرحوا به أشدّ الفرح, وأطاعوه حق الطاعة, وعاشوا معه أطيب العيش, فرضي الله عنهم.. حتى قال قائلهم: والله ما رأيت يوما أضوأ ولا أنور ولا أحسن من يوم دخل علينا محمد -صلى الله عليه وسلم-, ولا رأيت يوما أظلم ولا أقبح من يوم مات فيه -عليه الصلاة والسلام-().
يقول الإمام علي -رضي الله عنه-: أحب إلينا من أموالنا وأولادنا وآبائنا وأمهاتنا ومن الماء البارد على الظمإ().
يقول أبو سفيان للروم – قبل إسلامه – متعجبا من هذا الحب الفريد: ما رأيت أحداً يحب أحداً كحب أصحاب محمد محمداً -صلى الله عليه وسلم-().
لقد بُعث فيهم وقلوبهم غُلفا, وآذانهم صمّا, وألسنتهم بكما, لا يعرفون الإسلام, ولم يطعموا الإيمان, ولم يتذوقوا القرآن, حياتهم بهيمية, وأخلاقهم جاهلية, فعلمهم رسولهم الإسلام فغاصوا في بحره, وأطعمهم الإيمان فشربوا من كأسه, وذوقهم القرآن فلم يشبعوا من لذته وطعمه, فعاشوا مع رسولهم حياة السعادة, وكسروا شوكة الأحزان.
بايعوه على السمع والطاعة, والحب الكامل, فصدقوا البيعة, وأطاعوه في السراء المسرّة, وفي الضراء المضرة.
صبروا معه أجمل الصبر بلا تواني, وثبتوا معه كالجبال الرواسي, غاصوا معه البحار, وقطعوا الصحاري والغفار, وناموا في الشعاب والوديان, وتحملوا العطش وربطوا من الجوع الحجار.
لا يقدموا قولا قبل قوله, ولا رأيا بعد رأيه, ولا يرفعوا صوتا في حضرته, كلامه تنفيذ, وأمره طاعة, ونهيه زجرة, وسكوته تقرير وإباحة.
يرسل أحدهم برسالة وهو يعلم أنها النهاية, فيؤدي الأمانة, ويبلغ الرسالة, حتى ولو كان في ذلك الشهادة.
ينفقون أموالهم, ويتركون أعمالهم, وينسون أولادهم وزوجاتهم, ويجدوا العداء من أقاربهم, والأذى من غيرهم, همهم وغاية طريقهم, حبهم لله ولرسولهم, حتى ولو أموالهم هُلكت, وأعمالهم تُركت, وزوجاتهم أُرملت, وأطفالهم يُتمّت, فلا ضير عندهم.
فليتك تحلو والحياة مريرة ... وليتك ترضى والأنام غضاب
وليت الّذي بيني وبينك عامر ... وبيني وبين العالمين خراب
إذا صحّ منك الودّ فالكلّ هيّن ... وكلّ الّذي فوق التّراب تراب.
كل هذا من أجل رسول الله, -بعد الله- لأنه حبيبهم وقدوتهم وإمامهم ومعلمهم ووالدهم, وقرة عيونهم, كانوا راضيين برضاء رسولهم, لإنه سكب في قلوبهم الرضا، فما حسبوا للآلام في سبيل دعوته حسابا، وأفاض على نفوسهم من اليقين ما أبرد قلوبهم, واذهب همومهم, وسكّن جراحهم, وأثلج صدورهم.
صقل ضمائرهم بهداه، وأنار بصائرهم بسناه، ألقى عن كواهلهم آصار الجاهلية، وحط عن ظهورهم أوزار الوثنية، وخلع من رقابهم تبعات الشرك والضلال والغواية، وأطفأ من أرواحهم نار الحقد والعداوة، وصب على مشاعرهم ماء اليقين، فهدأت نفوسهم، وسكنت أبدانهم، واطمأنت قلوبهم، وبردت أعصابهم.
وجدوا لذة العيش معه، والأنس في قربه، والرضا في رحابه، والأمن في اتباعه، والنجاة في امتثال أمره، والغنى في الاقتداء به.
أحبوه بإخلاص نية, وضمائر مروّية, والعجب كل العجب أنهم شربوا دمه, وعطروا أبدانهم بعرقه وريقه, وسألوه الرفقة في الجنة.
أحبوها في كل خطوة يخطوها, حول القبلة فحولوها, وخلع نعله فخلعوها, وانقطع الوحي فبكوا أياما بلياليها{صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً}().
أحبوه فضحوا بالغالي والجميل, والكثير والكبير, حتى في جهاد المشركين, حين الدماء تسيل, والرؤوس تطير, يقول قائلهم: نحري دون نحرك يا رسول الله!().
صدقوا ما بايعوه, تضحية وفداء, حتى لو كان الثمن نفوسهم وأرواحهم, يقول قائلهم: والله يا رسول الله لو خضت بنا البحر لخضناه معك دون تردد ().. الله أكبر! ما هذا الحبّ الذي أحبوه؟.
ويقول آخر: والله لو سرت إلى برك الغماد لتبعناك يا رسول الله ().
وآخر يقول والدمع يفيض من عينيه: نفديك بآبائنا وأرواحنا يا رسول الله().
وليس الرجال فحسب, بل النساء لهن دور في هذا الحبّ الشرعي, تقول أحدهن وقد قتل يومئذ زوجها وأبوها وابنها وأخوها فتقول: يا رسول الله لا أبالي إذ سلمتَ من عطب!().
وهذه أخرى يموت ولدها في المعركة فيعزيها رسول الله فتقول: أما إذ رأيتك سالماً فقد اشتريتُ المصيبة().
ولو كان النساء كمن ذكرنا ... لفضلت النساء على الرجالِ
فما التأنيث لاسم الشمس عيبٌ ... ولا التذكير فخرا للهلالِ.
صدقوا في حبهم لنبيهم صدق النية, تمنوا لأنفسهم البلايا على أن لا تمس جسد حبيبهم -عليه الصلاة والسلام-, يقول قائلهم بعد إن ضربوه وصلبوه وقالوا له أترضى أن يكون محمدا مكانك, فقال في صدق حُبّ لرسوله: والله ما أحب أن يشاك محمد -صلى الله عليه وسلم- بشوكة وأنا في أهلي وولدي().
وليس الحب مقصورا على الرجال والنساء فحسب, بل كان للأطفال النصيب الكامل في حبهم لرسولهم -عليه الصلاة والسلام-, انظر في ساحة المعركة سيوف تلمع, ورؤوس تُقطع, وجماجم تتطاير, وأجساد تتناثر, وفي هذه اللحظات يتوقف طفلان أمام ابن مسعود: يا ابن مسعود أين أبا جهل؟ سمعنا أنه يسبّ حبيبنا –صلى الله عليه وسلم– فيخترقان صفوف المعركة, وينقضان عليه كالصقرين فيقتلان هذا الثور الهائج ().
إنهم صحب نادر, وجيل يصعب التاريخ البشري إيجاد نظيرهم, فهم المهاجرون مع الرسول والذين ناصروه, ودافعوا عنه في أشد المواقف, وضحوا بكل أملاكهم ليحضوا بقلب نبيهم -عليه الصلاة والسلام-, وصدقوا ما عاهدوا الله ورسوله.
قال ابن مسعود: إن الله نظر في قلوب العباد فوجد قلب محمد خير قلوب العباد، فاصطفاه لنفسه وابتعثه برسالته، ثم نظر في قلوب العباد بعد قلب محمد فوجد قلوب أصحابه خير قلوب العباد فجعلهم, وزراء نبيه -صلى الله عليه وسلم- ().