الصدقة تجلب السعادة, وتجلب السرور, وتجلب لصاحبها ودُّ الله له, وتجلب له ودُّ الناس؛ فيصبح محبوبا عند الله وعند الناس, فكن أنت صاحب الصدقة لتسعد سعادة لن تشقى بعدها أبدا. قال الرسول –صلى الله عليه وسلم-: (( السخي قريب من الله قريب من الجنة قريب من الناس، والبخيل بعيدٌ من الله، بعيدٌ من الناس بعيدٌ من الجنة))().
الصدقة فيها السعادة, وفيها الراحة, وفيها الطمأنينة, وفيها العزّ, وفيها الشرف, وفيها الفخر, فيها كل ألوان سعادة القلب (( اللهم أعط منفقاً خلفاً ))() {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ}().
محمد -صلى الله عليه وسلم- جوادا وأكرم من خلق الله، وأجود البرية نفسا ويدا، فكفه غمامة بالخير، ويده غيث بالجود، بل هو أسرع بالخير من الريح المرسلة، لا يعرف لا؛ إلا في التشهد.
ما قال (لا) قط إلا في تشهده لولا التشهد كانت لاؤه نعم.
يعطي -صلى الله عليه وسلم- عطاء من لا يخشى الفقر؛ لأنه بعث بمكارم الأخلاق، فهو سيد الأجواد على الإطلاق، أعطى غنما بين جبلين، وأعطى كل رئيس من العرب مائة ناقة، وسأله سائل ثوبه الذي يلبسه فخلعه وأعطاه، وكان لا يرد طالب حاجة، قد وسع الناس بره، طعامه مبذول، وكفه مدرار، وصدره واسع، وخلقه سهل، ووجهه بسام.
تراه إذا ما جئته متهللا ... كأنك تعطيه الذي أنت سائله.
ينفق مع العدم، ويعطي مع الفقر، يجمع الغنائم ويوزعها في ساعة، لا يأخذ منها شيئا، مائدته -صلى الله عليه وسلم- معروضة لكل قادم، وبيته قبلة لكل وافد، يضيف، وينفق، ويعطي، ويؤثر، ويصل القريب بما عنده، ويواسي المحتاج بما يملك، ويقدم الغريب على نفسه، فكان -صلى الله عليه وسلم- آية في الجود والكرم، حتى لا يقارن به أجواد العرب، كـ حاتم وابن جدعان؛ لأنه يعطي عطاء من لا يطلب الخلف إلا من الله.
ويجود جود من هانت عليه نفسه وماله وكل ما يملك في سبيل ربه ومولاه، فهو أندى العالمين كفا، وأسخاهم يدا، وأكرمهم محتذى، قد غمر أصحابه وأحبابه - بل حتى أعداءه- ببره وإحسانه وجوده وكرمه وتفضله، أكل اليهود على مائدته، جلس الأعراب على طعامه، حف المنافقون بسفرته، ولم يحفظ عنه -صلى الله عليه وسلم- أنه تبرم بضيف، أو تضجر بسائل، أو تضايق بطالب، بل جر أعرابي بردته حتى أثر في عنقه، وقال له: اعطني من مال الله الذي عندك، لا من مال أبيك ولا أمك، فالتفت إليه -صلى الله عليه وسلم- وضحك وأعطاه.
وجاءته كنوز من الذهب والفضة فأنفقها في مجلس واحد، ولم يدخر منها درهما ولا دينارا، ولا قطعة، فكان أسعد بالعطية يعطيها من السائل، وكان يأمر بالإنفاق والكرم والبذل، ويدعو للجود والسخاء، ويذم البخل والإمساك() فيقول: ((من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه))().
إن المتصدقين كثير، والمستجيبين لهذا النداء الرباني مِنْ فَجْرِ هذه الأمة، ومن فجر الإسلام إلى يومنا هذا هم جمعٌ غفيرٌ.
فهذا أبو بكر -رضي الله عنه وأرضاه-, يقول له النبي -صلى الله عليه وسلم- عندما تصدق: ((يا أبا بكر ما أبقيت لأهلك؟. فقال أبقيت لهم الله ورسوله))().
وهذا عثمان, يجهز جيش العسرة فيخرج نوقاً بأحلاسها وأقتابها فيقول له الرسول -صلى الله عليه وسلم-: ((ما ضر عثمان ما فعل بعد اليوم))().
ودخل عبد الرحمن بن عوف يحمل أكياس الذهب والفضة حتى وضعها في المسجد وقال: يا رسول الله! خذ هذا. قال: ((آجرك الله فيما أعطيت، وبارك لك فيما أبقيت))().
وقد أُثر عن علي زين العابدين -ذلك الإمام الجليل من أئمة السلف الصالح علماً وفضلاً ونبلاً رحمة الله عليه- أنه كان إذا جَنَّ عليه الليل وضع اللثام على وجهه، ثم حمل على ظهره أكياس الطعام، ومضى إلى بيوت يعرفها للأيتام والأرامل –رحمه الله- ثم أطعم وسقى واقتحم العقبة، ففك الرقبة، وأطعم ذا المسغبة، يتيماً ذا مقربة، أو مسكيناً ذا متربة، -رحمة الله على تلك الروح الطيبة- فلما توفي فقد أكثر من عشرين بيتاً –ممن يقرع عليهم في جوف الليل أبوابهم بذلك الطعام- فعلموا أنه ذلك العالم وذلك العابد، وكان في زمانه آيةً في العلم والصلاح مع ماله من النسب؛ لأنه ابن ابن بنت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فجمع الله له بين هذه الخيرات والفضائل، يقول في مدحه الفرزدق: ما قال لا قط, إلا في تشهده لولا التشهد كانت لاؤه نعم أي: ما جاءه أحد يسأله شيئاً فقال له: لا. وهذا من كمال خلقه وزينها -رضي الله عنه-.
فلما أرادوا أن يغسلوه ويكفنوه؛ خلعوا ثيابه فنظروا فإذا ظهره متشحط من الدم؛ بسبب أكياس الدقيق التي كان يحملها.
فسلامٌ على تلك القلوب الرحيمة، وسلام على تلك الأخلاق الكريمة، وتلك المعادن الأبية الصالحة التي كانت ترجو ما عند الله، وتريد رحمة الله –تعالى-، كان السلف الصالح -رحمة الله عليهم- لهم من الأخلاق والفضائل والنوائل ما تضرب به الأمثال().