لا تحزن على الدنيا فهي دار غرارة وميالة وخداعة, وهي بكاملها ربع ساعة.
أذان المرء حين الطفل يأتي ... وتأخير الصلاة إلى الممات
دليل على أن محياه قصيرُ ... كما بين الأذان والصلاة.
والمعنى أن صلاة الظهر –مثلاً-: يؤذن المؤذن للصلاة, فيجلس ربع ساعة ثم يقيم الصلاة ويصلي.
والطفل حين يولد يُؤذن في أُذنه, ثم عند موته يُصلى عليه ويدفن, إذاً: الوقت الذي بين الوقت القصير بين أذان الظهر وصلاته, وبين أذان الطفل حين ولد والصلاة عليه حين يموت؟. هو
فيا إخواني، السفر مكتوب علينا، فما لنا نطلب الإقامة في جار ليست لنا دار مقامة؟ السنون منازل، والشهور مراحل، والأيام أميال، والأنفاس خطوات، والمعاصي قطاع، والربح الجنة، والخسران النار.
خلقنا نتقلب في ستة أسفار إلى أن يستقر بنا القرار: فالسفر الأول: سفر السلالة من الطين، والثاني من الصلب إلى الرحم، والثالث: من الرحم إلى ظهر الأرض، والرابع: من ظهر الأرض إلى القبر، والخامس: من القبر إلى موقف العرض، والسادس: من موقف العرض إلى دار الإقامة: إما إلى الجنة أو النار، وقد قطعنا نصف الطريق، وبقي الأصعب.
يا من يضجّ في الكرب ويصيح، خلّ التدبير لغيرك فتستريح، تكثر النحيب والعويل، وتنسى ما سلف من الفعل الوبيل. لو رجعت إليك بقلبك، لعجّل عليك بتفريج همّك وكربك.
يا أخي، إياك والدنيا، فان حبل الدنيا مبتوت، واقنع منها بالقوت، واعلم أنك ستموت, وتجهز لتوديع العمر, تاركا طول الأمل, واركب ركاب العمل, في رحلة السفر, إلى دار المقر, في مقعد صدق عند مليك مقتدر.
قال ابن المبارك: قدمت مكة، فإذا الناس قد قحطوا من المطر، وهم يستسقون في المسجد الحرام، وكنت في الناس من باب بني شيبة، إذ أقبل غلام أسود قطعتا خيش، قد ائتزر بإحداهما، وألقى الأخرى على عاتقيه، فصار في موضع خفي إلى جانبي، فسمعته يقول: الهي، أخلقت الوجوه كثرة الذنوب ومساوئ العيوب، وقد منعتنا غيث السموات لتؤدب الخليقة بذلك، فأسألك يا حليم، يا من لا يعرف عباده من إلا الجميل، اسقهم الساعة الساعة.
قال ابن المبارك: فلم يزل يقول: اسقهم الساعة الساعة، حتى انسدّ الجو بالغمام، وأقبلت قطرات الركام تهطل كأفواه القرب، وجلس مكانه يسبّح الله –تعالى-، فأخذت في البكاء، حتى قام فاتبعته حتى عرفت موضعه.
فجئت إلى الفضيل بن عيّاض، فقال لي: ما لي أراك كئيبا؟ فقلت له: سبقنا إليه غيرنا، فولاه دوننا. قال: وما ذلك؟ فقصصت عليه القصة وسقط في الأرض، وقال: ويحك ابن المبارك، خذني إليه، فقلت: قد ضاق الوقت، سأبحث عن شأنه.
فلما كان من الغد، صليت الغداة، وخرجت أريد الموضع، فإذا بشيخ على باب، وقد بسط له وهو جالس، فلما رآني عرفني، وقال: مرحبا بك يا أبا عبد الرحمن، ما حاجتك؟ فقلت: احتجت إلى غلام، فقال: نعم عندي عدّة، اختار أيهم شئت، فصاح يا غلام، فقال: هذا محمود العاقبة، أرضاه لك، فقلت: ليس هذا حاجتي، فما زال يخرج واحدا بعد واحد، حتى أخرج إلى الغلام، فلما أبصرته بدرت عيناي بالدموع، فقال: هذا؟ فقلت: نعم، فقال: ليس لي إلى بيعه سبيل. فقلت: ولم؟!. قال: قد تبرّكت بموضعه في هذه الدار، فقلت له: ومن أين طعامه؟ فقال: يكسب من فتل الشريط نصف دانق أو أقل أو أكثر، فهو قوته إن باعه في يومه، وإلا طوى ذلك اليوم.
وأخبرني الغلمان عنه أنه لا ينام في الليل الطويل ولا يختلط بأحد منهم، مهتم بنفسه، وقد أحبه قلبي.
فقلت له: انصرف إلى الفضيل بن عياض وسفيان الثوري بغير قضاء حاجة، ثم رجعت إليه، وسألت فيه بإلحاح، فقال: إن ممشاك عندي كبير، خذه بما شئت.
قال: فاشتريته، وسرت معه نحو دار الفضيل، فمشيت ساعة فقال لي: يا مولاي. فقلت له: لبيك.
فقال: لا تقل لبيك، فان العبد أولى بأن يلبي من المولى.
قلت: وما حاجتك يا حبيبي.
قال: أنا ضعيف البدن، لا أطيق الخدمة، وقد كان لك في غيري سعة، قد أخرج لك من هو أجلد مني وأثبت. فقلت له: لا يراني الله –تعالى- أستخدمك، ولا كان اشترائي لك إلا أنزلك منزلة الأولاد، ولأزوّجك، وأخدمك أنا بنفسي. قال: فبكى، فقلت له: وما يبكيك؟.
قال لي: أنت لم تفعل هذا، إلا وقد رأيت بعض متصلاتي بالله –تعالى-، وإلا، فلِمَ أخذتني من أولئك الغلمان؟.
فقلت له: ليس بك حاجة إلا هذا.
فقال لي: سألت بالله إلا أخبرتني.
فقلت له: بإجابة دعوتك.
فقال لي: إني أحسبك -إن شاء الله- رجلا صالحا، إن لله -عز وجل- خيرة من خلقه، لا يكشف شأنهم إلا لمن أحب من عباده، ولا يظهر عليهم إلا من ارتضى.
ثم قال لي: ترى أن تقف عليّ قليلا، فانه قد بقي عليّ ركعات من البارحة.
قلت: هذا منزل الفضيل.
قال: لا هاهنا أحبّ إليّ. إنّ أمر الله –تعالى- لا يؤخر، فدخل المسجد، فما زال يصلي حتى أتى على ما أراد، فالتفت إليّ وقال: يا أبا عبد الرحمن، هل لك من حاجة؟.
قلت: ولم. قال: لأني أريد الانصراف.
قلت: إلى أين.
قال: إلى الآخرة.
قلت: لا تفعل دعني أنتفع بك.
فقال لي: إنما كانت تطيب الحياة حيث كانت المعاملة بيني وبين الله –تعالى-، فأما إذا اطلعت عليها أنت، سيطّلع عليها غيرك، فلا حاجة لي في ذلك، ثم خرّ على وجهه، وجعل يقول: إلهي اقبضني الساعة الساعة، فدنوت منه، فإذا هو قد مات. فو الله ما ذكرته قط إلا طال حزني، وصغرت الدنيا في عيني، وحقرت عملي. رحمه الله ورحمنا به().
قال بعض العارفين: الأرواح خلقت قبل الأجساد ثم أفيضت من عالمها العلوي النوراني فأودعت هذا الجسد الترابي الظلماني فاجتمعا اجتماع غربة, كل منهما يشير إلى وطنه, ويطير إلى مسكنه, فالبدن أخلد إلى الأرض, والروح بدون السمو لم ترض.
راحت مشرقة ورحت مغربا ... شتان بين مشرق ومغرب().
قال -عليه الصلاة والسلام-: (( كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل)) ().
قال المناوي: (كن في الدنيا كأنك غريب) أي عش بباطنك عيش الغريب عن وطنه بخروجك عن أوطان عاداتها ومألوفاتها بالزهد في الدنيا والتزود منها للآخرة فإنها الوطن, أي أن الآخرة هي دار القرار كما أن الغريب حيث حل نازع لوطنه, ومهما نال من الطرف أعدها لوطنه وكلما قرب مرحلة سره وإن تعوق ساعة ساءه فلا يتخذ في سفره المساكن والأصدقاء بل يجتزئ بالقليل قدر ما يقطع به مساقة عبوره لأن الإنسان إنما أوجد ليمتحن بالطاعة فيثاب أو بالإثم فيعاقب{لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا}() فهو كعبد أرسله سيده في حاجة فهو إما غريب أو عابر سبيل فحقه أن يبادر لقضائها ثم يعود إلى وطنه وهذا أصل عظيم في قصر الأمل وأن لا يتخذ الدنيا وطنا وسكنا بل يكون فيها على جناح سفر مهيأ للرحيل وقد اتفقت على ذلك وصايا جميع الأمم وفيه حث على الزهد والإعراض عن الدنيا والغريب المجتهد في الوصول إلى وطنه لا بد له من مركب وزاد ورفقاء وطريق يسلكها فالمركب نفسه ولا بد من رياضة المركوب ليستقيم للراكب والزاد التقوى والرفقاء الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والصراط المستقيم وإذا سلك الطريق لم يزل خائفا من القطاع إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع (أو عابر سبيل) قال الطيبي: الأحسن جعل أو بمعنى بل شبه الناسك السالك بغريب لا مسكن له يأويه ثم ترقى وأضرب عنه إلى عابر سبيل لأن الغريب قد يسكن بلد الغربة وابن السبيل بينه وبين مقصده أودية رديئة ومفارز مهلكة وقطاع وشأنه أن لا يقيم لحظة ولا يسكن لمحة().
قال علي بن أبي طالب: إن الآخرة قد ارتحلت مقبلة، وإن الدنيا قد ارتحلت مدبرة، فكونوا من أبناء الآخرة، ولا تكونوا من أبناء الدنيا، فإن اليوم عمل ولا حساب، وغدا حساب ولا عمل(), فكن في الدنيا كأنك غريب, قطعة خبز, وجرعة ماء, وكساء, وأيام قليلة, وليال معدودة, ثم اقطع جواز سفرك إلى الآخرة, ثم ينتهي العالم, فإذا قبرٌ أغنى الأغنياء وأفقر الفقراء سواء.
وقال ابن الجوزي: ينبغي لمن قاربه ساحل الأجل بعلوّ سنّه أن يبادر اللّحظات، وينتظر الهاجم بما يصلح له، فقد كان في قوس الأجل منزع زمان الشّباب ().