إن هذه الآية لم تكن ضربا من ضروب الحكايات، ولم تكن قصص وروايات، إنها من كلام رب البريات، أنزلت لحكم وغايات، ويكفيك أنها درب من دروب السعادات، جاءت لتؤلف القلوب، وتوحد الصفوف، وتجمع الشمل، وتزيل قشر الحقد والحسد والبغضاء.
شكر الناس مع الثناء، يزيد من البذل والعطاء.
مكتوب في التوراة: اشكر لمن أنعم عليك، وأنعم على من شكرك، فإنه لا زوال للنعم إذا شكرت، ولا مقام لها إذا كفرت، والشكر زيادة في النعم، وأمان من الغير().
ومن يسد معروفا إليك فكن له ... شكورا يكن معروفه غير ضائع.
ولا ريب أن شكر الناس من شكر الله، وأنه لا يشكر الله من لا يشكر الناس.
ولا ريب أن شكر المحسن على إحسانه مطلوب، وأنه مما تنشرح له الصدور، وتطمئن به القلوب، وتزداد إقبالا على إقبال.
ولكن قد يحصل في بعض الأحيان أن يُقابَل المعطي بشيء من الجحود، والكنود، والجفاء ونكران الجميل.
فإذا مرّ بك هذا الحال أيها المعطي فلم تُنصفْ، ولم تُعطَ قدرك، ورُدَّ عليك فضلك باليمين والشمال فلا يكبر ذلك في صدرك ويحملك على ترك العطاء والبذل، بل قابل ذلك بصدر رحب، ونفس راضية، وانتظر الشكر من خالقك؛ فعملك هذا{عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسَى}().
يد المعروف غنم حيث تسدى ... تحملها شكور أم كفور
كفى شكر الشكور لها جزاء ... وعند الله ما كفر الكفور.
من أسدي إليه المعروف، واصطنع إليه الإحسان فقد صار بأسر المعروف موثوقا، وفي ملك الإحسان مرقوقا، ولزمه، إن كان من أهل المكافأة، أن يكافئ عليها. وإن لم يكن من أهلها أن يقابل المعروف بنشره، ويقابل الفاعل بشكره.
وقال بعض الفصحاء: الكريم شكور أو مشكور، واللئيم كفور أو مكفور.
فإن من شكر معروف من أحسن إليه، ونشر أفضال من أنعم عليه، فقد أدى حق النعمة، وقضى موجب الصنيعة، ولم يبق عليه إلا استدامة ذلك إتماما لشكره ليكون للمزيد مستحقا ولمتابعة الإحسان مستوجبا().
قال الأصمعي: سمعت إعرابيا يقول أسرع الذنوب عقوبة كفر المعروف().
فمن عمل معك معروفا فأرجع إليه المعروف أضعاف فإن لم تستطع فأرجعه بالمثل فإن لم تستطع فبالشكر والثناء وذلك أضعف الإيمان..
وأذكر أنني كنت أُدرّس في إحدى مدارس يافع وذات يوم جاءتني طالبة صغيرة ممن أدرسهم فأعطتني علبة صغيرة من زنجبيل القهوة مع البُن، فسألتها ممن هي? فأخبرتني أنها من جدتها، وأنا بالفعل لا أعرف هذه العجوز مطلقا. فأسدت إليّ معروفها بالرغم أنها لا تعرفني إلا أنها تسمع صوتي على منبر الجمعة، والطلاب أخبروها عني. فأشغلني معروفها ودخل في قلبي حبُّها فقررتُ أن أكيل صاع إحسانها بمكيال الصندرة عندي، فاشتريتُ لها قارورة عسل من أجود أنواعه مع قليل من الكعك، بمبلغ أضعاف ما أرسلت إليّ، فأرسلت إليها ذلك{هَلْ جَزَاءُ الإِحْسَانِ إِلا الإِحْسَانُ}().
قيل للإسكندر: أي شيء لأسرُّ لك؟. قال: مكافأة من أحسن إليّ بأكثر من إحسانه، وعفوي عمن أساء بعد قُدْرتي عليه().
وبالشكر للمعروف تعمُّ السعادة بين الناس، وتزداد المحبة في القلوب، وتتقارب الأرواح وتتآلف، وهي كشجرة تثمر ثمرة الود والأخاء، والحب والصفاء، كيف لا يكون ذلك وهي تسقى بماء الشكر أصلها ثابت وفرعها في السماء، تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها.
إذا سر بالسراء عمّ سرورها ... وإن مس بالضراء أعقبها الأجر.
ومن كلام بعضهم: الشكر قيد للنعم الموجودة، وصيد للنعم المفقودة. وكانوا يسمّون الشكر الحافظ؛ لأنَّه يحفظ النعم الموجودة، والجالب؛ لأنَّه يجلب النعم المفقودة. وقيل أيضاً: النعمةُ إذا شكرت قرَّت وإذا كُفرت فرّت().
أنت كيف تبدو حين تعطي فترى الوجوه مبتسمة مسفرة، ضاحكة مستبشرة، شاكرة مثنية، كيف ترى نفسك?! لو كان لك جناحان أظن أنك ستحلق في السماء, وحين ترى الوجوه سوداء غبرة، ترهقها قترة، كفرة فجرة، كيف ترى حالك?!.
كذلك الناس اظهر لهم البسمة وردِّ المعروف والشكر والثناء، تدرج قلوبهم من حيث لا يدرون، فلم أرى في عيوب الناس عيبا كنقص القادرين على الشكر، وهل جزاء الإحسان إلا الإحسان?.
قال الماوردي: وأما من ستر معروف المنعم عليه ولم يشكره على ما أولاه من نعمه، فقد كفر النعمة وجحد الصنيعة. وإنه من أذم الخلائق، وأسوأ الطرائق، ما يستوجب به قبح الرد وسوء المنع . والحديث:((لا يشكر الله من لا يشكر الناس)) (). وقال بعض الأدباء: من لم يشكر لمنعمه استحق قطع النعمة.
وقال بعض الفصحاء: من كفر نعمة المفيد استوجب حرمان المزيد.
وقال بعض البلغاء: من أنكر الصنيعة استوجب قبح القطيعة.
وأنشد بعضهم:
من جاوز النعمة بالشكر ... لم يخش على النعمة مغتالها
لو شكروا النعمة زادتهم ... مقالة الله التي قالها
لئن شكرتم لأزيدنكـــــــــم ... لكنما كفــــــرهم غالها
والكفر بالنعمة يدعو إلى ... زوالها والشكر أبقى لها().
فلا تكن بخيلا، إن الشكر والثناء لا يؤتى بالمال ولا بالذهب والفضة، إنما يؤتى بكلمة طيبة فما أشد البخل عند من لم يشكر الناس.
وأنا عن نفسي لا أستطيع أن أنسى ذلك المعروف العامر، وجميل الإحسان الوافر, الذي قامت به كلية ردفان للقرآن الكريم وعلومه بقيادة الأستاذ: عبد الرزاق محسن راشد البكري وأعوانه، وما له من دور في تحصيل ثمار هذه الكلية، لقد تعب وتابع واجتهد وجاهد حتى جاء إلينا العلم بفضله وأعوانه باردا سائغا وشراب، فالشكر لله الرزاق, ثم لك يا عبد الرزاق, أنت وأعوانك المجاهدين في سبيل تحصيل العلم بسهولة ميسرة، فوالله لقد انتفعت بها فئام من الناس كثير وأنا منهم، فلولاهم بعد الله لما ألفنا لك هذا الكتاب، ولكنا في ظلمات الجهل نتخبط كالفراش المبثوث، وما زالت أيديهم بالعون تمتد تارة بكفالة يتيم، وتارة بإصلاح مسجد، وتارة بكفالة عيش لأسرة فقيرة، وتارة بتسديد ديون مديون، اللهم فاشهد أن شكرهم على صنيعهم في قلبي لا يفتر ولا ينتهي..
ولا تبخلن بالشكر والقرض فاجزه ... تكن خير مصنوع إليه وصانع.