لقد ظهر لي السرُّ في دعوة الرسول –صلى الله عليه وسلم– للتبسم, فالتبسم هو أول خطوة إلى طريق السعادة الطويل, بالبسمة ستنقلب الأشياء حولك إلى تجانس وتآنس كلها معك, وسوف تقبل القلوب عليك, وتنهال المحبة بين يديك, فلن تخسر بالبسمة شيء من جسدك ولا من مالك؛ بل ستجلب لنفسك الرضا والسكينة والوقار والسلام والراحة والطمأنينة والأمن الداخلي, وستسعد بمن حولك, وستحلُّ عقد وجهك, وعقد روحك, وستنطلق في بستان الحياة كالعصفور الغريد, لا تقطب جبينك, ولا تعبس بوجهك, فإن التعبس إعلان التذمر والحرب الباسرة, والكراهية الدائمة, للحياة ومن عليها.
ابدأ حياتك بالسلام والبسملة, فهاتان رسالتان معبرتان عن: عربون مودة, وجسر أخاء, وباقة حبّ للدنيا ومن فيها.
قال ابن القيم: اعلموا أن البشاشة وطلاقة الوجه لإخوانكم من الأمور التي تثابون عليها, فمن كان متصفا بها فليحمد الله, وليسأله المزيد من ذلك, ومن لم يكن متصفا بها، فليمرن نفسه عليها، فإن الإنسان لا يزال يمرن نفسه على الأخلاق الفاضلة حتى تكون من سجاياه وطبائعه().
والضحك المعتدل والابتسام بلسم للهموم ومرهم للأحزان، وله قوة عجيبة في فرح الروح، وجذل القلب، حتى قال أبو الدرداء -رضي الله عنه-: إني لأضحك حتى يكون إجماما لقلبي. وكان أكرم الناس -صلى الله عليه وسلم- يضحك أحيانا حتى تبدو نواجذه، وهذا ضحك العقلاء البصراء بداء النفس ودوائها.
والتبسم هذا يسميه بعض العلماء: السحر الحلال, قيل لعالم من العلماء: ما هو السحر الحلال؟ قال: تبسم في وجه الرجال.
والتبسم سهل وهو يباع في الأسواق بلا ثمن, وهو أرخص العملات, وما بيع أبداً بقيمة وقد وجدوه أرخص ما يسام، ولكنه غالٍ جداً عند الأتقياء, والمتكبرون لا يتبسمون.
يقول جرير بن عبد الله البجلي: والله ما زال -عليه الصلاة والسلام- كل ما رآني يتبسم في وجهي.
لماذا يتبسم -عليه الصلاة والسلام-؟ ليشتري القلوب. -القلوب لا تباع بالذهب ولا بالفضة, ولا بالدراهم ولا بالدنانير, تباع بالبسمات- بقي يتبسم للناس حتى أسر قلوبهم.
جمع القبائل والعرب كقرون الثوم, ما يجتمعون أبداً، ما جمعهم ملك، ولا رئاسة ولا إمبراطورية ولا عرفان ولا ثقافة ولا حضارة جمعهم تبسم محمد -عليه الصلاة والسلام-(). قال –تعالى-: {وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}(){فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ}().
وكانت العرب تمدح ضحوك السن، وتجعله دليلا على سعة النفس وجودة الكف، وسخاوة الطبع، وكرم السجايا، ونداوة الخاطر.
تراه إذا ما جئته متهللا ... كأنك تعطيه الذي أنت سائله.
يقول أحدهم: ليس المبتسمون للحياة أسعد حالا لأنفسهم فقط، بل هم كذلك أقدر على العمل، وأكثر احتمالا للمسؤولية، وأصلح لمواجهة الشدائد ومعالجة الصعاب، والإتيان بعظائم الأمور التي تنفعهم وتنفع الناس.
لو خيرت بين مال كثير أو منصب خطير، وبين نفس راضية باسمة، لاخترت الثانية، فما المال مع العبوس؟! وما المنصب مع انقباض النفوس؟! وما كل ما في الحياة إذا كان صاحبه ضيقا حرجا كأنه عائد من جنازة حبيب؟! وما جمال الزوجة إذا عبست وقلبت بيتها جحيما؟! لَخير منها -ألف مرة- زوجة لم تبلغ مبلغها في الجمال وجعلت بيتها جنة.
ولا قيمة للبسمة الظاهرة إلا إذا كانت منبعثة مما يعتري طبيعة الإنسان من شذوذ، فالزهر باسم والغابات باسمة، والبحار والأنهار والسماء والنجوم والطيور كلها باسمة. وكان الإنسان بطبعه باسما لولا ما يعرض له من طمع وشر وأنانية تجعله عابسا، فكان بذلك نشازا في نغمات الطبيعة المنسجعة، ومن أجل هذا لا يرى الجمال من عبست نفسه، ولا يرى الحقيقة من تدنس قلبه، فكل إنسان يرى الدنيا من خلال عمله وفكره وبواعثه، فإذا كان العمل طيبا, والفكر نظيفا, والبواعث طاهرة، كان منظاره الذي يرى به الدنيا نقيا، فرأى الدنيا جميلة كما خلقت، وإلا تغبش منظاره، واسود زجاجه، فرأى كل شيء أسود مغبشا().
هل جرّبت أثر البسمة في وجوه الناس فلو لقيت شخصاً عند الباب قل: أهلاً تفضل، والله تدخل -إن شاء الله- تتغدى معي كأنك غديته، لكن لو لقيته وقلت: تفضل، امشِ! ثم أدخلته وغديته خروفاً، يقول: الله أكبر عليك مضيف! يضاربني! ما هذا؟! فلا -يا أخي- لا بد من الخلق، ولابد من بشاشة الوجه، ولهذا قال -عليه الصلاة والسلام-: ((تبسمك في وجه أخيك صدقة)) () ماذا تخسر؟ لماذا لا تضحك وتبتسم لأخيك؟ لن تخسر أي شيء في تبسمك، ويقول -صلى الله عليه وسلم-: ((لا تحقرن من المعروف شيئاً ولو أن تلقَ أخاك بوجه طلق)) ()ويقول -عليه الصلاة والسلام-) :(ما من مسلمين يلتقيان فيتصافحان إلا غفر لهما قبل أن يتفرقا)) ().
تبسمك في وجه أخيك صدقة, هناك نفوس تستطيع أن تصنع من كل شيء شقاء، ونفوس تستطيع أن تصنع من كل شيء سعادة، هناك المرأة في البيت لا تقع عينها إلا على الخطأ، فاليوم أسود، لأن طبقا كسر، ولأن نوعا من الطعام زاد الطاهي في ملحه، أو لأنها عثرت على قطعة من الورق في الحجرة، فتهيج وتسب، ويتعدى السباب إلى كل من في البيت، وإذا هو شعلة من نار، وهناك رجل ينغص على نفسه وعلى من حوله، من كلمة يسمعها أو يؤولها تأويلا سيئا، أو من عمل تافه حدث له، أو حدث منه، أو من ربح خسره، أو من ربح كان ينتظره فلم يحدث، أو نحو ذلك، فإذا الدنيا كلها سوداء في نظره، ثم هو يسودها على من حوله. هؤلاء عندهم قدرة على المبالغة في الشر، فيجعلون من الحبة قبة، ومن البذرة شجرة، وليس عندهم قدرة على الخير، فلا يفرحون بما أوتوا ولو كثيرا، ولا ينعمون بما نالوا ولو عظيما.
الحياة فن، وفن يتعلم، ولخير للإنسان أن يجد في وضع الأزهار والرياحين والحب في حياته، من أن يجد في تكديس المال في جيبه أو في مصرفه. ما الحياة إذا وجهت كل الجهود فيها لجمع المال، ولم يوجه أي جهد لترقية جانب الرحمة والحب فيها والجمال؟!
أكثر الناس لا يفتحون أعينهم لمباهج الحياة، وإنما يفتحونها للدرهم والدينار، يمرون على الحديقة الغناء، والأزهار الجميلة، والماء المتدفق، والطيور المغردة، فلا يأبهون لها، وإنما يأبهون لدينار يدخل ودينار يخرج. قد كان الدينار وسيلة للعيشة السعيدة، فقلبوا الوضع وباعوا العيشة السعيدة من أجل الدينار، وقد ركبت فينا العيون لنظر الجمال، فعودناها ألا تنظر إلا إلى الدينار.
ليس يعبس النفس والوجه كاليأس، فإن أردت الابتسام فحارب اليأس. إن الفرصة سانحة لك وللناس، والنجاح مفتوح بابه لك وللناس، فعود عقلك تفتح الأمل، وتوقع الخير في المستقبل.
ليس يوفق الإنسان في شيء كما يوفق إلى مرب ينمي ملكاته الطبيعية، ويعادل بينها ويوسع أفقه، ويعوده السماحة وسعة الصدر، ويعلمه أن خير غرض يسعى إليه أن يكون مصدر خير للناس بقدر ما يستطيع، وأن تكون نفسه شمسا مشعة للضوء والحب والخير، وأن يكون قلبه مملوءا عطفا وبرا وإنسانية، وحبا لإيصال الخير لكل من اتصل به.
النفس الباسمة ترى الصعاب فيلذها التغلب عليها، تنظرها فتبسم، وتعالجها فتبسم، وتتغلب عليها فتبسم، والنفس العابسة لا ترى صعابا فتخلفها، وإذا رأتها أكبرتها واستصغرت همتها وتعللت بلو, وإذا, وإن. وما الدهر الذي يلعنه إلا مزاجه وتربيته، إنه يؤد النجاح في الحياة ولا يريد أن يدفع ثمنه، إنه يرى في كل طريق أسدا رابضا، إنه ينتظر حتى تمطر السماء ذهبا أو تنشق الأرض عن كنز .
ما أحوجنا إلى البسمة وطلاقة الوجه، وانشراح الصدر وأريحية الخلق، ولطف الروح ولين الجانب() ((إن الله أوحى إلي تواضعوا، حتى لا يبغي أحد على أحد ولا يفخر أحد على أحد))().
إن انقباض الوجه والعبوس علامة على تذمر النفس، وغليان الخاطر، وتعكر المزاج ((ولو أن تلقى أخاك بوجه طلق)) إن عبوس الوجه إعلان حرب ضروس على الآخرين لا يعلم قيامها إلا علام الغيوب.
إن عبوس الوجه: إعلان للفرقة بينك وبين إخوانك, وفتح بابا للأحزان دائم, فاحرص على أن تجعل وجهك ذا بشاشة دائمة, وأن تطرد منه كل اشمزاز, وحاول أن تفك عقد وجهك بالبسمات التي تلقيها للناس لتكسب قلوبهم, ولك في ذلك سعادة الحياة الدنيوية, ولك في ذلك الثواب الجزيل على ما صنعته.
طلاقة الوجه تُدخل السرور على من قابلك, وعلى من اتجه لك، وتجلب المودة والمحبة، وتوجب انشراح القلب، بل توجب انشراح الصدر منك وممن يقابلك -وجرب تجد- لكن إذا كنت عبوسًا فإن الناس ينفرون منك، ولا ينشرحون بالجلوس إليك، ولا بالتحدث معك، وربما تصاب بمرض خطير يسمى بالضغط، فإن انشراح الصدر وطلاقة الوجه من أكبر العقاقير المانعة من هذا الداء داء الضغط. ولهذا فإن الأطباء ينصحون من ابتلي بهذا الداء بأن يبتعد عما يثيره ويغضبه؛ لأن ذلك يزيد في مرضه، فطلاقة الوجه تقضي على هذا المرض؛ لأن الإنسان يكون منشرح الصدر محبوبًا إلى الخلق().