الواحد يطالب إخوانه أو من بقوا من الورثة أن يُعطوه من ميراث أبيه المُتوفى ليتنقنق ويتمتع بالعيش مما اكتسبه أبوه في حياته.
فكذلك الأنبياء كانوا أهل علم, ولما ماتوا لم يتركوا خلفهم شيء من متاع الدنيا الفاني ليكون ميراثا؛ لأن الأنبياء لا يورّثون, وإنما ورثوا العلم فمن أخذه أخذ بحظ وافر, وحصل على النور الساطع, والحياة المطمئنة الطيبة ((إن الأنبياء لم يورثوا درهماً ولا ديناراً، وإنما ورثوا العلم، فمن أخذه أخذ بحظ وافر))().
أولوا العلم في الدنيا بأعلى المنازل ... وهم وارثوا الرسل الكرام الأوائل
فهـــم أنجـم الدنيا ونور لأهــلها ... أئمــة أهـــل الأرض زيــن المـحافـل.
العلم نور, العلم فضيلة, العلم بهاء, العلم ضياء, العلم حياة سعيدة أبدية.
قيل لأحد السلف: اجتهد واطلب واسهر, ولا تدع أحدا يسبقك في علمك ولو تشق نفسك، فإن الرفيع من كان ذا سلطان أو ذا علم، فمن لم يكن له أحدهما تركه الناس، ورأى أعقابهم.
ونحن نقول: إن صاحب السلطان إذا نظر حق النظر، لم يمنح سلطانه عوضا عن العلم، فإن عز صاحب السلطان إنما يدوم له ما دام في سلطانه، فإذا زال عنه ذل، وعز العالم يدوم له في حياته وبعد وفاته، ولهذا كان فضلاء السلاطين يجتهدون في طلب العلم مع كثرة أشغالهم ولانغماسهم في الدنيا() حتى يحصلوا على سعادة قلوبهم, وسلامة صدورهم, أما سعادتهم بالمال فلن تنفع, وسعادتهم بالجاه فلن تفيد؛ فكلها موجودة عندهم ولكنها ما أسعدت قلوبهم مثل العلم, ومثل العلو في المكارم ومثل الصعود في الثنايا والقلل، ولا يكون إلا بشق النفس.
ومن ظن أنه ينعم في قصد الذرى والتوقل في الغرفات العلى فقد ظل باطلا وتوهم محالا.
ورتبة الأديب من أعلى الرتب، ودرجة العلم أشرف الدرج، فمن أراد مداولتها بالدعة وطلب البلوغ إليها بالراحة كان مخدوعا، قال الجاحظ: العلم عزيز الجانب، لا يعطيك بعضه حتى تعطيه كلك فإذا كنت أيها الأخ ترغب في سمو القدر, ونباهة الذكر, وارتفاع المنزلة بين الخلق، وتلتمس عزا لا تثلمه الليالي والأيام, ولا تتحيفه الدهور والأعوام، وهيبة بغير سلطان، وغنى بلا مال، ومنعة بغير سلاح، وعلاء من غير عشيرة، وأعوانا بغير أجر، وجندا بلا ديوان وفرض، فعليك بالعلم، فاطلبه في مظانه، تأتك المنافع عفوا، وتلق ما يعتمد منها صفوا، واجتهد في تحصيله ليالي قلائل، ثم تذوق حلاوة الكرامة مدة عمرك، وتمتع بلذة الشرف فيه بقية أيامك، واستبق لنفسك الذكر به بعد وفاتك.
ولأمر ما اجتهد فيه طائفة العقلاء، وتنافس عليه الحكماء، وتحاسد فيه الفضلاء، ولا يصلح الحسد والملق في شيء غيره ().
فإذا كان العلم مؤنسا في الوحدة، ووطنا في الغربة، وشرفا للوضيع، وقوة للضعيف، ويسارا للمقتر، ونباهة للمغمور حتى يلحقه بالمشهور المذكور، كان من حقه أن يؤثر على أنفس الأعلاق، ويقدم على أكرم العقد، ومن حق من يعرفه حق معرفته أن يجتهد في التماسه ليفوز بفضيلته.
رأيــت العلم صاحبه شــريف ... وإن ولــــــــــــــــدته آبــــــــاء لئـــــــــــــــام
وليس يــزال يرفعــــــــه إلـــــى إن ... يعظــم قــــدرة القـــــــوم الــــــكـرام
ففي العلم النجاة من المخازي ... وفي الجهل المذلة والرغام
ولولا العلم ما سعدت نفوس ... ولا عرف الحلال ولا الحرام
هو الدليل الهادي إلى المعالي ... ومصباح يضاء بــه الظـــــلام.
وقال آخر:
لنا شرف العلم العزيز الذي به ... رزقنا بحمد الله من أرفع الرتب
به أنسنا والعز والفخر والعلا ... ففي العلم عز للفتى أينما ذهب..
......................................
وكم مشكلات في العلوم نحلها ... نرى حلها أغلى من الدر والذهب
وما الدر والياقوت في جنب علمنا ... وما المال إلا مثل بعر لدى عنب().
السعادة شجرة ماؤها وغذاؤها وهواؤها وضياؤها الإيمان بالله، والدار الآخرة, ولن تستطيع الوصول إلى تلك السعادة؛ إلا عن طريق العلم. والعلم يشرح الصدر، ويوسع مدارك النظر ويفتح الآفاق أمام النفس فتخرج من همها وغمها وحزنها.
والسعادة ليست في الحسب ولا النسب ولا الذهب، وإنما في الدين والعلم والأدب, وبلوغ الأرب, فرحة العلم دائمة، ومجده خالد، وذكره باق، وفرحة المال منصرمة، ومجده إلى الزوال، وذكره إلى نهاية.
العلم يرفع الجاهل إلى مناطحة الثريا, والصعود في درج الأبرار السعداء؛ لأن العلم مفتاح الهداية, فالهدى والعلم كالمطر ينزل على الأرض، فتهتز وتربو، وتنبت من كل زوج بهيج، وهذا أمر ملحوظ مشهود فإنك تجد كثيراً من الناس يعيش في عماية، فإذا عرفت حاله في جاهليته قلت: سبحان الله! هذا لا خير فيه، سوء خلق وقلة أدب وقلة دين، لا ينفع في دين ولا دنيا، لكن إذا قيض الله من يعلمه ويربيه على الحق والخير حتى كأنه بعد هدايته خلق آخر، تبارك الله رب العالمين! وهذا موجود في جيل الصحابة -رضي الله عنهم-، قارن بين عمر قبل إسلامه وبعد إسلامه، عمر كان قبل إسلامه الرجل الغليظ الجافي القاسي، وله في ذلك قصص وآثار معروفة، وبعد إسلامه كان يسمع الآية من القرآن تقرأ، فيبكي حتى يجلس في بيته أياماً يعاد من جراء تأثره بهذه الآية.
قال معاذ بن جبل: عليكم بالعلم فإن طلبه لله عبادة, ومعرفته خشية, والبحث عنه جهاد, وتعليمه لمن لا يعلمه صدقة, ومذاكرته تسبيح, به يعرف الله ويُعبد, به يمجّد ويوحّد, يرفع الله بالعلم أقوما, ويجعلهم للناس قادة, وأئمة يهتدون بهم وينتهون إلى رأيهم().
لله در العلم! كم رفع أقواما وذلّ آخرين, وكم أسعد أُناس وأشقى آخرين, وكم رفع مملوك حتى أجلسه على مجالس الملوك..