لم يقتصر الحديث على الرجال فحسب, بل كان للنساء دورا عجيبا في الشجاعة, والخوض في ميدان المعركة, خلّد التاريخ آثارهن, ومُلئت الدواوين بأفعالهن.
ولا يسع الحديث عن أمهات المؤمنين, فيكفي في حقهن أنهن زوجات للحبيب -عليه الصلاة والسلام-, ويكفي في وصفهن أن القرآن شرفهن بكامل صفاتهن, ويكفي في صدقهن أنهن ناقلات السنة إلينا, ويكفي في شجاعتهن أنهن يتسابقن للخروج مع رسول الله في كل غزواته.
الحديث عن نساء الرعيل الأول, إنهن نساء وما هن بنساء, خرجت إحداهن يوم أحُد تسقي الظمأى, وتغيث الجرحى، وكانت غرة الحرب للمسلمين وطلعتها، تنطلق كلبوة من عرينها, وتناوش سيوف المشركين بسيفها, تنهل من نحورهم, وتطعن في ظهورهم، وقف الأعداء يدرءون عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ويحولون دون الوصول إليه، هنالك جاء دور هذه اللبوة البريّة, تنطلق كالسهم من الرميّة, انتضت سيفها, واحتملت قوسها، وذهبت تصول وتجول بين يدي رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، تنزع عن القوس، وتضرب بالسيف، فكانت من أظهر القوم أثراً, وأعظمهم موقفاً، قاتلت حق القتال, وجاهدت حق الجهاد, تعبت وطوي جسدها بالجراح, إنها امرأة بألف رجل, لا أظن أحدا لا يعرفها, إنها نسيبة بنت كعب المازنية, أم البطل المقدام: حبيب, رسول مسيلمة()..
وإذ أنت بامرأة من الأنصار, سطّر التاريخ مقولتها, يُقتل أبوها وأخوها وابنها وزوجها, فما وجدت وقتا للبكاء عليهم؛ لأن قرة عينها حياة رسولها -عليه الصلاة والسلام-, فتقول في شجاعة ونباهة لرسول الله: لا أٌبالي بهم إذا سلمتَ من عطب()..
وامرأة أخرى من نساء أسياد الأنصار يموت ابنها في ساحة المعركة, فيأتي رسول الله ليعزيها, فتأتيه مسرعة لتتأمله وتطمئن على سلامته فتقول في رحابة صدر: أما وإني رأيتك سالما يا رسول الله فقد اشتريتُ المصيبة()..
وإذا سألتني عن إمام الشهداء من النساء, وأول من فاضت روحها في الإسلام, أقول لك: إنها امرأة رأت من التوحيد ما أعجبها, ومن الإيمان ما أكرمها, ففضلت العيش بكرامة, عرضوا عليها بيع الدين بالدنيا ولكنها رفضت حتى باعت الدنيا واشترت الآخرة, عذبها سيدها, ونكّل بها أشد النكال, وهي صابرة محتسبة{فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا}() همها وغايتها تحقيق معنى العبودية لله, لا يضرها نصب الدنيا, حتى قتلها سيدها أبو جهل, وفاضت روحها, والإيمان يفيض من قلبها, لسان حالها:
فليتك تحلو والحياة مريرة ... وليتك ترضى والأنام غضاب
وليت الذي بيني وبينك عامر ... و بيني وبين العالمين خراب
إذا صح منك الود فالكل هين ... وكل الذي فوق التراب تراب.
إنها: سمية بنت خباط أم عمار ابن ياسر()..
إنهن نساء ونعم النساء, لبوات في غابات أنجبن أسود التاريخ, وليوث الميادين.
ولو كان النساء كمن ذكرنا ... لفضلت النساء على الرجالِ
فما التأنيث لاسم الشمس عيبٌ ... ولا التذكير فخرا للهلالِ.