{وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ}(){وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً}(){وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}(){خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ}(){ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ}(){فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ}(){وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاماً}().
فإن حسن الخلق هو بذل الندى، وكفّ الأذى، واحتمال الأذى. وهو التخلي من الرذائل، والتحلي بالفضائل.
وجماع حسن الخلق أن تصل من قطعك، وتعطي من حرمك، وتعفو عمن ظلمك.
ثم إن لحسن الخلق فضائل عديدة، فهو امتثال لأمر الله ورسوله, وبه ترفع الدرجات، وتيسر الأمور، وتستر العيوب، وتكسب القلوب.
وبه يسلم المرء من شرور الخلق، ويفي بالحقوق الواجبة والمستحبة، كما أن به السلامة من مضار الطيش والعجلة، وبه راحة البال، وطيب العيش إلى غير ذلك من فضائل حسن الخلق.
فالمؤمن كريم الخلال، جميل الخصال, تجده على أكمل ما يكون عليه الرجل في كلامه، وفي فعله وإحسانه إلى الناس، يفشي السلام، ويطعم الطعام, ويصل الأرحام، يكون على خير الخلال, وجميل الخصال؛ لكمال إيمانه بالله الكريم المتعال.
فإذا أراد الله أن يسعد العبد بين الناس أسعده بحسن الخلق، قال -صلى الله عليه وسلم-: ((إن العبد ليدرك بحسن الخلق درجة الصائم القائم)) () فإذا أراد الله أن يسعدك طيَّب شمائلك وأخلاقك، فأحبك الناس من قربك وفعلك، من رزقهُ الله حسن الخلق عاش سعيداً، ومات حميداً، ورضي الناس عنه وشهدوا له بكل خير، ولربما بقي حياً بعد موته في الذكر الجميل، فالأخلاق والآداب الطيبة ومعاشرة الناس وتوطئة الكنف من أعظم أسباب السعادة.
وإذا أردت سعادة مع الناس: فعليك أن تسلم الناس من لسانك، فلا يسمعوا منك إلا الطيب؛ لأن المسلم طيب سلّم لله لسانه وجنانه وجوارحه وأركانه.
ولقد وصف الله أهل الجنة بأنهم طابوا، والملائكة يدخلون عليهم من كل باب ويسلمون عليهم، يقول الله –تعالى-: {سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ}() فلما طابت أقوالهم وأفعالهم كانوا من أهل الجنة، فمن أراد أن يكون من السعداء فليحفظ لسانه عن الناس، وإذا أراد أن يعيش بين الناس عيشةً هنية رضية فليحفظ لسانه عن عورات المسلمين وأذية إخوانه المؤمنين، وأن يعطي إخوانه المسلمين من الكلام ما يحب أن يأخذه منهم.
كذلك من أسباب السعادة مع الناس: الحرص على مجالستهم ومباسطتهم ومؤانستهم، فإن ذلك من أسباب السعادة، فإن من نعم هذه الدنيا التي ينعم الله بها على عباده الصالحين مجالس الذكر والخير، فإذا جلست مع الناس فتفقد أحوالهم، فإذا رأيت المهموم بدلت همومه بكلمةٍ طيبة، وإذا رأيت القلق الحيران أرشدته في حيرته ووجهته من غفلته وذكرته بالله، فإنها كلماتٌ طيبات يعظم أجرها في الدنيا وفي الآخرة بعد الممات.
فمن أراد أن يعيش سعيداً مع الناس حرص على أمرهم بالخير ودلالتهم عليه، فإذا فعل ذلك طيب الله ذكره ومجالسه، وقذف في قلوب الناس حبه وحب الجلوس معه، حتى ولو كانوا من جيرانك الأقربين إذا زرتهم وتفقدت أحوالهم، فإن رأيت تقصيراً كملته، وإن رأيت عيباً دللتهم ونبهتهم عليه، وأرشدتهم إليه، وأخذت بمجامع قلوبهم إلى الله، واحتسبت الأجر عند الله, يقول -عليه الصلاة والسلام-: ((أكمل المؤمنين إيمانا: أحسنهم خلقا, الموطئون أكنافا الذين يألفون ويؤلفون ولا خير فيمن لا يألف ولا يؤلف)) () والأكناف هي أطراف الشيء والأجنحة، أي: يوطئونها للناس، ويألفهم الناس ويألفونهم في الزيارة والقرب والمساءلة.
أنت لا تنفق على الناس من جيبك، إنما تنفق عليهم بالبسمة، وبالرحمة يحببك الله إلى الخلق، ويجعلك قريباً منه، وبقدر ما يفعل الإنسان يفعل الله له يوم القيامة، والجزاء من جنس العمل, قال -عليه الصلاة والسلام-: ((إنكم لا تسعون الناس بأموالكم ولكن يسعهم منكم حسن الخلق)) ().
أعط من حرمك، واعف عمن ظلمك، وابذل نداك، وكف أذاك، وتعاهد من وصلته بمعروفٍ جديد، تجد السعادة في عالمك.
من هو أسعد البشر؟! إنه ذلك الذي يقدر مواهب الآخرين، ويشاركهم في غبطتهم كما لو كانت غبطته هو، يقول الأستاذ مصطفى أمين: أشعر بسعادة غامرة عندما أستطيع أن أرسم ابتسامة على شفاهٍ حزينة، أو أمسح دمعة من عين باكية، أو أن أمد يدي إلى إنسان سيئ الحظ وقع على الأرض فأساعده على الوقوف().
إن السعادة الكبرى هي في العطاء وليست في الأخذ: تراه إذا ما جئته متهللاً, كأنك تعطيه الذي أنت آخذه, أولئك الذين يكرهون الآخرين ويحزنون لنجاحهم هم في الحقيقة يطردون السعادة من قلوبهم بإرادتهم.
فالذي ينبغي أن نتذرع بالعطاء والكرم والجود والمجالسة والبشاشة مع أصدقائنا ومعارفنا وهذا لا شك فيه، لكن لماذا إذا اقتحم مجلسنا شخص جديد انقبضنا عنه وازوررنا، وتوقفت الكلمات، وقرظت الشفاه، وأصبح الجميع صامتون متسمرون لا يتحدثون ولا يبتسمون؟؛ كما لو كان دخل عليهم عنصر غريب، يتقون الحديث معه أو يتجنبونه.
إذاً: فالإحسان والابتسامة والبشاشة والكلمة الطيبة والهدوء، هي المدخل الطبيعي إلى قلوب الآخرين، والنبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: ((وتبسمك في وجه أخيك صدقة)) () فإذا أردت أن تنادي أخاك أو تحادثه أو تدعوه إلى الله –تعالى-، فقدم بين يدي نجواك صدقة، ليست صدقة مال، لكن صدقة ابتسامة تعبر عن قلب رَضِيٍ نديٍ، لا يحمل للآخرين إلا الحب والود، وليس فيه أدنى رائحة من كبر أو عجب أو غرور أو أي معنى آخر يظنه الآخرون.
فالأخلاق منحة من الله -جل جلاله-، ألا وإن أحق الناس بأخلاقك, وأحق الناس بعطفك وحنانك, وبرك وإحسانك, ومن تظهر له الخلق الحسن: والداك, أمك وأبوك{فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيماً (23) وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً}()، كان أبو هريرة -رضي الله عنه وأرضاه- إذا وقف على الباب وأمه بالبيت قرع الباب وقال: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، رحمك الله يا أماه كما ربيتني صغيراً. فقالت أمه: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته، رحمك الله يا بني كما بررتني كبيراً().
وكان بعض السلف إذا علا صوته على أمه عتق رقبتين كفارة لخطأه().
وسئل بعض السلف: كيف كان بر ابنك لك؟ قال: ما مشيت نهارا قط إلا مشى خلفي، ولا ليلا إلا مشى أمامي، ولا رقى سطحا وأنا تحته.
وسُئل آخر وكان كثير البر بأمه، حتى قيل له: إنك من أبر الناس بأمك، ولا نراك تؤاكل أمك، فقال: أخاف أن تسير يدي إلى ما قد سبقت عينها إليه، فأكون قد عققتها().
وكان طلق بن حبيب من العباد والعلماء، وكان يقبل رأس أمه، وكان لا يمشي فوق ظهر بيت وهي تحته؛ إجلالا لها().
وكان محمد بن سيرين سيداً من سادات التابعين، وإماماً من العلماء المجتهدين، -رحمة الله عليهم أجمعين-، هذا الإمام العظيم كان ديواناً في العلم من تلامذة أنس بن مالك، وكان في غاية من العلم والصلاح والورع وتقوى الله –تعالى-، كان إذا جن الليل سُمع بكاءه بالقرآن في الظلمات، وكان إذا جلس مع أصحابه ضحك ومزح وأدخل السرور عليهم، فإذا دخلت أمه عليه خشع كأنه مصاب بمصيبة -رحمة الله عليه-.
كان السلف الصالح -رحمة الله عليهم- يبرون بالوالدين، أحق الناس بعطفك وإحسانك وبرك والداك، فمن مجلسك هذا تعاهد الله على أن تغير في أخلاقك ومعاملتك، حتى قال بعضهم: من نادى أباه باسمه فقد عقه، إنما يقول: يا أبتاه().
هذه من البر والأخلاق الحميدة، فلا تزال تبر الوالدين فتقوم من عندهما وقد رفعت الدعوات إلى الله لك بالأمور التي تنشرح بها الصدور, وتأمن بها من هول البعث والنشور، وما زال البار يبر والديه حتى استجاب الله دعوته, وفرج الله نكبته وكربته، كما في حديث الثلاثة الذين في الغار، وما زال البار يبر والديه حتى عزت عند الله دعوته فما رد له دعوة سأله فيها، كما في قصة أويس القرني -رحمة الله عليه-.
كذلك أحق الناس بأخلاقك الحميدة: زوجتك وأهلك وأولادك، تكون على شمائل عطرة، سل عن هدي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مع أزواجه، سل عن أخلاقه العطرة ومواقفه الجميلة الجليلة النضرة مع الصغير والكبير، وخذ ذلك المثال الذي يحتذى به، هذا هو الالتزام وهذه هي وصية رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لك: ((خيركم خيركم لأهله, وأنا خيركم لأهلي)) () فتبدأ أول ما تبدأ بوالديك ثم بأهلك وأولادك، تدخل إليهم حليماً رفيقاً براً رقيقاً، حتى تكسب تلك القلوب بالحنان والمودة والإحسان، ضع شهادات الجامعات, ورتب المعسكرات, ضع كل هذا عند باب البيت, وادخل إليهم كما لو كنت طفلاً.
كم من أب ما زال يحسن إلى أهله, ويتواضع معهم وهو من كبار القوم, حتى خرج من الدنيا وقد أسر قلوبهم بالجميل، وكم من زوج صالح خرج من الدنيا وقد أسر قلب امرأته بالجميل والعمل الصالح الجليل.
حبيبي! الأهل أحوج ما يكونون إلى الأخلاق الحميدة، فالعفو عن زلتهم، والصبر على أذيتهم، واحتساب الأجر فيما يكون منهم.
كذلك أحق الناس بأخلاقك الحميدة: العلماء والدعاة إلى الله، فيُذكرون بالجميل، ومن ذكرهم بغير ذلك –تنقصاً- فقد ضل عن سواء السبيل.
العلماء مشاعل الحكمة والنور، أهل الهدى والخير والرحمة والبشر والسرور -فنسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يعظم أجورهم، وأن يشرح صدورهم، وأن يخلد حبهم في العباد- فحبهم في الله قربى، والدعاء لهم بظهر الغيب حسنة، لا يحبهم إلا مؤمن يخاف الله، ولا يذكرهم بالجليل إلا من يتقي الله، فهم أحق الناس بالأخلاق الحميدة، فإذا رأيت العالم فتواضع له وأجله وأكرمه، فالعلماء حقهم كبير، عيونهم سهرت وقد نامت عيون الناس، سهرت على مشاكل المسلمين وهمومهم وغمومهم ومسائلهم، فالله أعلم كم تكبدوا من مشاق، وصدعوا بحق دمغ أهل الزيغ والنفاق، العلماء حقهم كبير، فكن -رحمك الله- من أحسن الناس خلقاً مع العلماء، وإذا جلست بين يدي عالم فكن التلميذ المبرز في الخلق الحميد، وإذا جلست في مجلسه فكن التلميذ المبرز في الكلمات الطيبة التي تدل على إجلال مَن أمَر الله بإجلاله، وتعظيم مَن أمَر الله بتعظيمه، وتوقير مَن أمَر الله بتوقيره، فتلك سنة الصالحين، ودأب عباد الله المتقين جعلني الله وإياكم منهم أجمعين.
ثم أحق الناس بالخلق الحسن الضعفاء والفقراء واليتامى والثكالى، فتواضع لهم فإن رحمة الله في التواضع لهم، وأدخل السرور عليهم فمن سرهم سره الله يوم المساءة، تفقد عورات المسلمين والضعفة والمحتاجين، وافتح قلبك لهمومهم وأحزانهم، واحتسب عند الله –تعالى-، فإن الله لا يضيع أجر من أحسن عملاً، ولعل مالاً تنفقه يحجبك الله به عن النار، ولعل كربة تفرجها يفرج الله عنك بها كربة يوم القرار، احتسب عند الله في ضعفة المسلمين فإنهم أحق الناس بعطفك وحنانك، واحتسب عند الله -جل وعلا- ألا يراك الناس إلا على فعل جليل، وألا يسمع الناس منك إلا القول الجميل.
وختاما أقول لك: كن ذا أخلاق حسنة فسعة الخلق وبسطه الخاطر: نعيم عاجل وسرور حاضر لمن أراد به الله خيرا. وإن سيء الخلق وسرعة الانفعال والحدة وثورة الغضب: نكد مستمر وعذاب مقيم.