والله الذي لا إله غيره إن لذة طلب العلم والسرور الذي تجده في طريقك لطلب العلم، والفرحة التي تعتريك حين وصولك للعلم، لا تستطيع أن تعبّر عنها، ولا تستطيع أن تصفها، ولا تستطيع أن تشرح كيف تذوقتها، وأهل العلم المتلذذون به من شدة تلذذهم بالعلم لم يستطيعوا أن يحددوا هذه اللذة، ولم يقدروا على شرح سعادتهم بالعلم، لأنها فوق الوصف، ووالله ما قدرتُ أن أترك العلم -بسبب الظروف والأحوال- لأني كنت مسرورا أشد السرور بطلبه مهما كانت ظروفي وأحوالي.
أول ما تخرجنا من الكلية للعلم الشرعي: بدأتُ أبكي على فراق طلب العلم؛ لأني لم أجد أمتع من طلب العلم, والمكوث في مكتبات العلم, وكنت كلما جلستُ في مكتبة للقراءة يمرُّ الوقت مرّ السحاب؛ لأني في مطالعة الكتب أُفرّغ عقلي من كل ما يشغله سوى القراءة, ولم أبدأ بتأليف الكتاب الذي بين يديك, إلا حبّا لمطالعة الكتب مع واقع الناس الذي يعيشوه.
وما أجمل ﻟﺬﺓ العلم فهي ﺩاﺋﻤﺔ ﻻ ﺗﻨﻘﻄﻊ، ﻭﺑﺎﻗﻴﺔ ﻻ ﺗﺴﺮﻕ، ﻭﻻ ﺗﻌﺼﺐ، ﻭﻻ ﻳﻨﺎﻓﺲ ﻓﻴﻬﺎ، ﻭﺃﻧﻬﺎ ﺻﺎﻓﻴﺔ ﻻ ﻛﺪﻭﺭﺓ ﻓﻴﻬﺎ، ﻭﻟﺬاﺕ اﻟﺪﻧﻴﺎ ﻛﻠﻬﺎ ﻧﺎﻗﺼﺔ ﻣﻜﺪﺭﺓ ﻣﺸﻮﺷﺔ ﻻ ﻳﻔﻲ ﻣﺮﺟﻮﻫﺎ ﺑﻤﺨﻮﻓﻬﺎ، ﻭﻻ ﻟﺬﺗﻬﺎ ﺑﺄﻟﻤﻬﺎ، ﻭﻻ ﻓﺮﺣﻬﺎ ﺑﻐﻤﻬﺎ، ﻫﻜﺬا ﻛﺎﻧﺖ ﺇﻟﻰ اﻵﻥ ﻭﻫﻜﺬا ﺗﻜﻮﻥ ﻣﺎ ﺑﻘﻲ ﻣﻦ اﻟﺰﻣﺎﻥ..
ولذة العلم لذة يذوقها خواص البشر، إلا أنهم مهما اجتهدوا في إخبار الناس عنها فلن ينقلوها كما هي، وليس المخبر كالمعاين، وقد أعجبني ما صرح به ابن القيم قائلاً: السعادةُ الحقيقيةُ الروحيةُ النفسيةُ هي سعادة العلم، فهي الباقية على تقلب الأحوال، في دار الدنيا، ودار البرزخ، ودار القرار، وبها يترقى معارج الفضل، ودرجات الكمال... ولولا جهل الأكثرين بحلاوة هذه اللذة، وعِظَمِ قدرها، لتجالدوا عليها بالسيوف، ولكن حُفَّت بحِجَابٍ من المكاره، وحُجِبوا عنها بأسوار من الجهل، ليختص الله بها من يشاء من عباده، والله ذو الفضل العظيم...().
ﺇﺫا ﻣﺎ ﺷﺌﺖ ﺃﻥ ﺗﺴﻤﻮ ﻭﺗﺴﻤﻰ ... ﻭﺗﺪﺭﻙ ﺭاﺣﺔ ﺭﻭﺣﺎ ﻭﺟﺴﻤﺎ
ﻓﻘﻢ ﻟﻄﺮﻳﻖ ﺃﻫﻞ اﻟﻌﻠﻢ ﺳــــــــﻌﻴﺎ ... ﻟﺘﻘﻔﻮا ﻣﻌﻬﻤﻮا ﺃﺛﺮا ﻭﺭﺳﻤﺎ
ﻓﺈﻥ ﺣﺼﻠﺖ ﻣـــــــــــﻄﻠﻮﺑﺎ ﻭﺇﻻ ... ﻇﻔﺮﺕ ﺑﺄﻛﺒﺮ اﻟﺸﺮﻓﻴﻦ ﻗﺴﻤﺎ
ﻓﺄﻛﺮﻡ ﻣﺎ ﺣﻮاﻩ اﻟﻤــــــﺮء ﻋﻠﻢ ... ﺑﻪ ﻳﻬﺪﻯ ﻭﻳﻬــــــــﺪﻱ ﻣﻦ ﺃﻟﻤﺎ
ﻭﻟﻴﺲ ﻳﻔﻴﺪ اﻟﻜﻮﻥ ﻋـــــﺒﺪا ... ﺇﻟﻰ اﻟﻌﻠﻴﺎء ﻳﺴﺮﻱ ﻭﻫﻮ ﺃﻋﻤﻰ
ﻓﻜﻢ ﺃﺑﺪﻯ ﺿﻴﺎء اﻟﻌﻠﻢ ﺭﺷﺪا ... ﻭﺃﺫﻫﺐ ﻇﻠﻤﺔ ﻭﺃﺯاﻝ ﻏﻤﺎ
ﻓﻨــــــﺤﻤﺪ ﺭﺑﻨﺎ ﺇﺫ ﻣﻦ ﻟــــــــــــﻄﻔﺎ ... ﺑﻪ ﻓﻲ ﺭﺷﺪﻧﺎ ﻭﺃﺯاﻝ ﻏﻤﺎ..
ولذة العلم أعظمُ اللَّذات، وشهوته أعظم الشَّهوات، وحلاوته تفوق كل حلاوة، وطعمه يعلو على كل الطعوم، وأصحابه هم المسرُورون وهم الفرحون، وأهله هم المنعمون، ففي العِلْم بالأشياء لذَّة لا تُوازيها لذَّة.
ولما كتب العالم الزاهد أبو إسحاق الألبيري -رحمه الله- قصيدته المشهورة التي يحفز فيها ولده أبا بكر, ويحضه على طلب العلم, والجد فيه والتزود والنهل منه.. ضمنها محفزات تسمو بالهمة في طلب العلم إلى الثريا، فذكر له فضل العلم, وما يكسب صاحبه, ثم أخبره بأن للعلم لذة لو ذاق حلاوتها لأنسته كل لذة سواها فقال مما قال:
أبا بــكر دعـــوتك لو أجـــبتا ... إلى ما فيه حظك لو عقلتا.
إلى أن قال:
فلـــو قد ذقت من حلــواه طعما ... لآثرت التعلم واجتهدتا
ولم يشغلك عنه هــوى مطـــــاعٌ ... ولا دنيـا بزخرفها فُــتــنـــتا
ولا ألهـــاك عنـه أنيــــــــــق روضٍ ... ولا خــــدر بزينــتــــها كـــــلفتا
فقوت الروح أرواح المـــعاني ... وليس بأن طعمت ولا شربتا().
قال الإمام ابنُ الجوزيِّ: والله ما أعرف مَن عاش رفيعَ القَدْر بالِغًا من اللَّذات ما لَم يبلُغْ غيرُه، إلاَّ العلماء المُخلصين؛ كالحسَن وسفيان، والعُبَّاد المُحقِّقين كمعروف؛ فإنَّ لذة العلم تزيد على كلِّ لذة، ...وكذلك لذة الخلوة والتعبُّد().
وقد شهد لهم بصدق ما قالوه أربابُ العلم، والمُشتَغِلون به؛ فإنما يعرف صدق القوم من جرب فعرف، أو ذاق فاغترف.
يقول شيخ الإسلام أبن تيمية -رحمه الله-: ولا ريب أن لذة العلم أعظم اللذات().
ويقول الحافظ ابن القيِّم -عليه رحمة الله-: وأمّا عُشَّاق العلم فأعظم شغفًا به وعِشقًا له من كلِّ عاشقٍ بمعشوقه، وكثيرٌ منهم لا يشغله عنه أجمل صورة من البشر..
وقال أيضًا: ولو صوَّروا العلم صورةً، لكانت أجمل من كلِّ صورة().
واعلم أن شرف الشيء إما لذاته أو لغيره، والعلم حائز الشرفين جميعا؛ لأنه لذيذ في نفسه فيطلب لذاته، لذيذ لغيره فيطلب لأجله.. يعني لأجل المقصود من ورائه().
ولو نظرت في الأقوام السابقين من العلماء الراسخين، ومن هم من تحتهم للعلم طالبين، لوجدتهم في بستان العلم يتجولون، ومن جميل أزهاره يقطفون، ومن لذيذ ثماره يتذوقون، وهذا لما سمت نفوسهم، وعلت أرواحهم، وارتفع كعبهم، واختلط العلم بدمهم ولحمهم، هانت عليهم الدنيا فباعوها واشتروا حلاوة الإيمان ولذة العلم، فمنهم من فارق الأوطان, وترك الأهل والأصحاب والخلّان، ومنهم من أنفق الأموال، ومنهم من سهر الليالي الطوال، وتركوا التلذذ بالفرش والزوجات، ومنهم من ترك ما لذ وطاب من الطعام والشراب، ليس لهم همّ, وليس لهم مطلب, إلا أن يتزودوا من العلم.
فلذّة العلم عندهم فاقت كل لذائذ الدنيا, وغلبت حلاوته كل حلاوة فيها، فيه أنسهم وفرحهم وطربهم، فكان نومهم للعلم، وقومتهم للعلم، وجلوسهم للعلم، وكلامهم في العلم، ومشيهم إلى العلم، ونفقتهم في العلم، وأكلهم وشربهم للعلم، وسمرهم في العلم، في حلهم وترحالهم مع العلم، فحياتهم علم، فلهذا كان العلم دنياهم..
يقول ابن الجوزي عن سعادته والتذاذه بطلب العلم: ولقد كنتُ في حلاوة طلَبِ العلم أَلْقى من الشَّدائد ما هو أحلى عندي من العسَل في سبيل ما أطلبُ وأرجو، وكنتُ في زمن الصِّبا آخذُ معي أرغفةً يابسة، ثم أذهب به في طلب الحديث، وأقعد على نهر عيسى، ثُم آكل هذا الرَّغيف، وأشرب الماء، فكلَّما أكلتُ لقمةً شربتُ عليها، وعين همَّتِي لا تَرى إلا لذَّة تحصيل العلم().
سهــري لتنقيح العــلوم ألذ لي ... من وصـل غانية وطيب عناق
وتمــايلي طـربا لحل عويصة ... أشهى وأحلى من مدامة سـاقي
وصرير أقلامي على أوراقها ... أحــلى من الدوكــاء والعشـــاق
وألـذ مــن نـقــر الفــتاة لـدفها ... نقري لألقي الرمـل عن أوراقي..
ويقول الشاطبيُّ: العلم جمال ومال ورتبة لا توازيها رتبة، وأهله أحياء أبد الدهر، ... إلى سائر ما له في الدنيا من المناقب الحميدة، والمآثر الحسنة، والمنازل الرفيعة ...فإن في العلم بالأشياء لذة لا توازيها لذة؛ إذ هو نوع من الاستيلاء على المعلوم والحوز له، ومحبة الاستيلاء قد جُبلت عليها النفوس ومُيلت إليها القلوب، وهو مطلبٌ خاص، برهانه التجربة التامة والاستقراء العام؛ فقد يُطلب العلم للتفكه به، والتلذذ بمحادثته، ولا سيما العلوم التي للعقول فيها مجال، وللنظر في أطرافها مُتسع، ولاستنباط المجهول من المعلوم فيها طريق متبع().
وكان أبو حنيفة -رحمه الله- إذا أخذته هزة المسائل يقول: أين الملوك من لذة ما نحن فيه؟ لو فطنوا لقاتلونا عليه().
قال المناوي: وطالب العلم المتلذذ بفهمه لا يزال يطلب ما يزيد التذاذه، فكلما طَلَبَ ازداد لذةً فهو يطلب نهاية اللذة و لا نهاية لها().
والعلم الذي ترتبط به السعادة ولا تنفكُّ عنه هو العلم بالله ورسوله, ﻭهي اﻟﻠﺬﺓ اﻟﺘﻲ ﻳﺠﺪ اﻹﻧﺴﺎﻥ ﻃﻌﻤﻬﺎ ﻓﻲ اﻟﺤﻴﺎﺓ، ﻭاﻟﺘﻲ ﺗﺒﻘﻰ ﺑﻌﺪ اﻟﻤﻮﺕ، ﻭﺗﻨﻔﻊ ﻓﻲ اﻵﺧﺮﺓ، ﻫﻲ ﻟﺬﺓ اﻟﻌﻠﻢ ﺑﺎﻟﻠﻪ ﻭﺃﺳﻤﺎﺋﻪ ﻭﺻﻔﺎﺗﻪ، ﻭﻟﺬﺓ ﻣﻨﺎﺟﺎﺗﻪ ﻭﻋﺒﺎﺩﺗﻪ، ﻭﻫﻲ ﻟﺬﺓ اﻹﻳﻤﺎﻥ ﻭاﻷﻋﻤﺎﻝ اﻟﺼﺎﻟﺤﺔ.
ﻓﺄﻃﻴﺐ ﻣﺎ ﻓﻲ اﻟﺪﻧﻴﺎ ﻣﻌﺮﻓﺘﻪ ﺳﺒﺤﺎﻧﻪ، ﻭﺃﻃﻴﺐ ﻣﺎ ﻓﻲ اﻵﺧﺮﺓ اﻟﻨﻈﺮ ﺇﻟﻴﻪ -ﺳﺒﺤﺎﻧﻪ-.
ﻭﻓﻀﻴﻠﺔ اﻟﺸﻲء ﻭﺷﺮﻓﻪ ﻳﻈﻬﺮ ﺗﺎﺭﺓ ﻣﻦ ﻋﻤﻮﻡ ﻣﻨﻔﻌﺘﻪ، ﻭﺗﺎﺭﺓ ﻣﻦ ﺷﺪﺓ اﻟﺤﺎﺟﺔ ﺇﻟﻴﻪ، ﻭﺗﺎﺭﺓ ﻣﻦ ﻇﻬﻮﺭ اﻟﻨﻘﺺ ﻭاﻟﺸﺮ ﺑﻔﻘﺪﻩ، ﻭﺗﺎﺭﺓ ﻣﻦ ﺣﺼﻮﻝ اﻟﻠﺬﺓ ﻭاﻟﺴﺮﻭﺭ ﻭاﻟﺒﻬﺠﺔ ﺑﻮﺟﻮﺩﻩ، ﻭﺗﺎﺭﺓ ﻣﻦ ﻛﻤﺎﻝ اﻟﺜﻤﺮﺓ اﻟﻤﺘﺮﺗﺒﺔ ﻋﻠﻴﻪ ﻭﺇﻓﻀﺎﺋﻪ ﺇﻟﻰ ﺃﺟﻞ اﻟﻤﻄﺎﻟﺐ.
ﻭﻫﺬﻩ اﻟﺠﻬﺎﺕ ﺑﺄﺳﺮﻫﺎ ﺣﺎﺻﻠﺔ ﻟﻠﻌﻠﻢ، ﻓﺈﻧﻪ ﺃﻋﻢ ﺷﻲء ﻧﻔﻌﺎ، ﻭﺃﻛﺜﺮﻩ ﻭﺃﺩﻭﻣﻪ، ﻭاﻟﺤﺎﺟﺔ ﺇﻟﻴﻪ ﻓﻮﻕ اﻟﺤﺎﺟﺔ ﺇﻟﻰ اﻟﻐﺬاء، ﺑﻞ ﻓﻮﻕ اﻟﺤﺎﺟﺔ ﺇﻟﻰ اﻟﺘﻨﻔﺲ.
ﻭﻻ ﺷﻲء ﺃﻃﻴﺐ ﻟﻠﻌﺒﺪ ﻭﻻ ﺃﻟﺬ ﻭﻻ ﺃﻫﻨﺄ ﻭﻻ ﺃﻧﻌﻢ ﻟﻠﻘﻠﺐ ﻣﻦ العلم بمعرﻓﺔ ﺭﺑﻪ، ﻭﻣﺤﺒﺔ ﻓﺎﻃﺮﻩ ﻭﺑﺎﺭﻳﻪ، ﻭﺩﻭاﻡ ﺫﻛﺮﻩ، ﻭاﻟﺴﻌﻲ ﻓﻲ ﻣﺮﺿﺎﺗﻪ، ﻭﻫﺬا ﻫﻮ اﻟﻜﻤﺎﻝ اﻟﺬﻱ ﻻ ﻛﻤﺎﻝ ﻟﻠﻌﺒﺪ ﺑﺪﻭﻧﻪ.