لتكن سعيدا في حياتك راضيا عن نفسك يجب عليك أن تضبط عواطفك وأعمالك ومطالبك, فالدين نزل يأمر بالتوسط في الأمور.
فالعدل مطلب عقلي وشرعي، لا غلو ولا جفاء، لا إفراط ولا تفريط، ومن أراد السعادة فعليه أن يضبط عواطفه، واندفاعاته، وليكن عادلا في رضاه وغضبه، وسروره وحزنه؛ لأن الشطط والمبالغة في التعامل مع الأحداث ظلم للنفس، وما أحسن الوسطية، فإن الشرع نزل بالميزان والحياة قامت على القسط، ومن أتعب الناس من طاوع هواه، واستسلم لعواطفه وميولاته، حينها تتضخم عنده الحوادث، وتظلم لديه الزوايا، وتقوم في قلبه معارك ضاربة من الأحقاد والدخائل والضغائن، لأنه يعيش في أوهام وخيالات ولذلك أوصى علي –رضي الله عنه– بالتوسط في حُبّ الحبيب فقال: ((أحبب حبيبك هونا ما، فعسى أن يكون بغيضك يوما ما، وأبغض بغيضك هونا ما، فعسى أن يكون حبيبك يوما ما )) () وهذه حكمة أمسك عليها، الحب إذا كان معتدلاً -موجود ولكنه باعتدال، وبدون إسراف- فإنه يستمر ويدوم ويثمر، لكن إذا كان حباً جارفاً مسرفاً فإنه يتحول إلى بغضاء، وهذا معروف فإنك تجد العاطفة -كما يقال- متقلبة، فإذا كان الإنسان ممن إذا أحب أسرف، تجد أنه ممن إذا أبغض أسرف، وتجد أن هذا الحب قد يتحول في كثير من الأحيان إلى بغضاء.
فأعط كل شيء حجمه، ولا تضخم الأحداث والمواقف والقضايا، بل اقتصد واعدل فالسعادة في الوسط، فلا غلو ولا جفاء، ولا إفراط ولا تفريط، وإن الوسطية منهج رباني حميد يمنع العبد من الحيف إلى أحد الطرفين. وإن من خصائص الإسلام أنه دين وسط، فهو وسط بين اليهودية والنصرانية: اليهودية التي حملت العلم وألغت العمل، والنصرانية التي غالت في العبادة وطرحت الدليل، فجاء الإسلام بالعلم والعمل، والروح والجسد، والعقل والنقل.
وإن مما يسعدك في حياتك الوسطية، الوسطية في عبادتك: فلا تغل فتنهك جسمك وتقضي على نشاطك ومداومتك، ولا تجف فتطرح النوافل وتخدش الفرائض وتركن إلى التسويق. وفي إنفاقك: فلا تتلف أموالك وتهلك دخلك فتبقى حسيرا مملقا، ولا تمسك عطاءك وتبخل بنوالك، فتبقى ملوما محروما. ووسط في خلقك: بين الجد المفرط واللين المتداعي، بين العبوس الكالح والضحك المتهافت، بين العزلة الموحشة والخلطة الزائدة على الحد.
إنه منهج الاعتدال في أخذ الأمور، والحكم على الأشياء، ومعاملة الآخرين، فلا زيادة يطفو بها كيل القيم، ولا نقص يضمحل به أصل الخير، لأن الزيادة ترف وسرف وغلو وتشدد، والنقص جفاء وحفاء وضعف وتكاسل يقول رسول الله –صلى الله عليه وسلم-: ((والله إني لأعلمكم بالله وأخشاكم له وأتقاكم له، ولكني أصوم وأفطر، وأقوم وأنام، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني)) () ((لا تشددوا على أنفسكم فيشدد الله عليكم، وإن قوماً شددوا على أنفسهم فشدد الله عليهم، فتلك بقاياهم في الصوامع والديارات)) () ((بشروا ولا تنفروا ويسروا ولا تعسروا)) () ((وما خيِّر -صلى الله عليه وسلم- بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثماً )) ().
فرّبي نفسك على التوسط والاعتدال حتى لا تتعب نفسك وتتعب وتضج وتنفجر, وفي هذا يقول ابن القيم –رحمه الله- وهو يبين كيفية التوسط في صفات الخير للنفس: فإن النفس متى انحرفت عن التوسط انحرفت إلى أحد الخلقين الذميمين ولا بد، فإذا انحرفت عن خلق التواضع انحرفت: إما إلى كبر وعلو، وإما إلى ذل ومهانة وحقارة. وإذا انحرفت عن خلق الحياء انحرفت: إما إلى قحة وجرأة، وإما إلى عجز وخور ومهانة، بحيث يطمع في نفسه عدوه. ويفوته كثير من مصالحه. ويزعم أن الحامل له على ذلك الحياء. وإنما هو المهانة والعجز، وموت النفس.
كذلك إذا انحرفت عن خلق الصبر المحمود انحرفت: إما إلى جزع وهلع وجشع وتسخط، وإما إلى غلظة كبد، وقسوة قلب، وتحجر طبع.
كما قال بعضهم: تبكي علينا. ولا نبكي على أحد فنحن أغلظ أكبادا من الإبل.
وإذا انحرفت عن خلق الحلم انحرفت: إما إلى الطيش والترف والحدة والخفة، وإما إلى الذل والمهانة والحقارة. ففرق بين من حلمه حلم ذل ومهانة وحقارة وعجز، وبين من حلمه حلم اقتدار وعزة وشرف. كما قيل:
كل حلم أتى بغير اقتدار ... حجة لاجئ إليها اللئام.
وإذا انحرفت عن خلق الأناة والرفق انحرفت: إما إلى عجلة وطيش وعنف، وإما إلى تفريط وإضاعة. والرفق والأناة بينهما.
وإذا انحرفت عن خلق العزة التي وهبها الله للمؤمنين، انحرفت: إما إلى كبر، وإما إلى ذل. والعزة المحمودة بينهما.
وإذا انحرفت عن خلق الشجاعة انحرفت: إما إلى تهور وإقدام غير محمود، وإما إلى جبن وتأخر مذموم.
وإذا انحرفت عن خلق المنافسة في المراتب العالية والغبطة انحرفت: إما إلى حسد، وإما إلى مهانة، وعجز وذل ورضا بالدون.
وإذا انحرفت عن القناعة انحرفت: إما إلى حرص وكَلَبٍ، وإما إلى خسة ومهانة وإضاعة.
وإذا انحرفت عن خلق الرحمة انحرفت: إما إلى قسوة، وإما إلى ضعف قلب وجبن نفس، كمن لا يقدم على ذبح شاة، ولا إقامة حد، وتأديب ولد. ويزعم أن الرحمة تحمله على ذلك. وقد ذبح أرحم الخلق -صلى الله عليه وسلم- بيده في موضع واحد ثلاثا وستين بدنة. وقطع الأيدي من الرجال والنساء. وضرب الأعناق. وأقام الحدود ورجم بالحجارة حتى مات المرجوم. وكان أرحم خلق الله على الإطلاق وأرأفهم.
وكذلك طلاقة الوجه، والبشر المحمود. فإنه وسط بين التعبيس والتقطيب وتصعير الخد، وطي البشر عن البشر، وبين الاسترسال بذلك مع كل أحد، بحيث يذهب الهيبة، ويزيل الوقار، ويطمع في الجانب، كما أن الانحراف الأول يوقع الوحشة والبغضة، والنفرة في قلوب الخلق.
وصاحب الخلق الوسط: مهيب محبوب، عزيز جانبه، حبيب لقاؤه. وفي صفة نبينا -صلى الله عليه وسلم- من رآه بديهة هابه, ومن خالطه عِشْرةً أحبَهُ ().
إن الكرم بين الإسراف والبخل، وإن الشجاعة بين الجبن والتهور، وإن الحلم بين الحدة والتبلد، وإن البسمة بين العبوس والضحك، وإن الصبر بين القسوة والجزع، وللغلو دواء هو التخفيف من هذا الغلو، وإطفاء شيء من هذا اللهيب المحرق وللجفاء دواء هو سوط عزم، وومضة همة، وبارقة من رجاء{اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ (6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ} ().
فكن متوسطا فإن الحسنة بين السيئتين: سيئة الإفراط وسيئة التفريط، وإن الخير بين الشرين: شر الغلو وشر المجافاة، وإن الحق بين الباطلين: باطل الزيادة وباطل النقص، وإن السعادة بين الشقاءين: شقاء التهور وشقاء النكوص.
كذلك كن متوسطا في مشيك فلا جري متعب ومهلك, ولا أنأنةً وتباطئ. والتوسط في اللباس فلا ينبغي التلبس بالملابس الغالية التي ترهقك وتتعبك بشراءها, ولا كذلك التلبس بالملابس الوضيعة الدنيئة التي تذلك عند الناس وتحرجك. وكذلك في الطعام اعط بطنك ما يوسطها ما بين الجوع والشبع((فثلث لطعامه، وثلث لشرابه, وثلث لنفسه ))()ولا تهلك نفسك بشراء الطعام ذا السعر الباهظ الخاص بأصحاب الأموال والثراء فتهلك في بحر الفقر والحاجة, ولا كذلك الطعام الذي لا يسمن ولا يغني من جوع, إنما كن الوسط في ذلك وما أحسن الشرع حين قال: {وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ} () {لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا} () {وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ} ().
فكن ذا عقل فطن واعط كل ذي حق حقه..