لقد ظهر لي سرّا من أسرار تعاستنا حين تلاطمت علينا أمواج الكدر، وفاضت علينا بححور الحزن، وتزلزت بنا براكين الهموم، وخسفت بنا أرض الوحشة، وانقطع علينا هواء الراحة، وانقطعت علينا أنوار السعادة، فلم تمطر السماء ماء الحياة لقلوبنا، وأجدبت أرض فرحتنا، فأمطرت علينا سماءها دموع البكاء، وأنبتت نبات اليأس، فأثمرت لنا ثمرة القنوط، فأكلناها مرة المذاق، شديدة الحموضة، صعبة البلع، فاختنقت حلوقنا، وصعب على المعدة هضمها؛ وذلك حين حبينا صور المخلوق، ونسينا الخالق، واتبعنا المرزوق وتركنا الرازق، وتعلقت قلوبنا بنظرة كاذبة وأهملنا النعيم الخالد.
إن حب الله وتعلق القلب بالله سعادة القلب, وراحة الضمير, وهدوء النفس, وانشراح الصدر، يبقى لا ينتهي، ويدوم لا ينقطع، ويزهو لا يفتري، ينفع لا يرتمي، وهو كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها.
أما الحب وتعلق القلب بالمردان والنساء الجميلات، وصور الفاجرين والفاجرات، واللاعبين واللاعبات، والمصارعين والمصارعات، والمغنيين والمغنيات، والمسرحيين والمسرحيات، الأحياء منهم والأموات، فذاك همٌ لا ينتهي، وحزن سرمدي، وفكرٌ أبدي، ولباس ردي، فمئاله إلى زوال، هموم وغموم وأحزان، وهو كشجرة خبيثة اجتثت من فوق الأرض ما لها من قرار.
فواعجبا لخراب هذه القلوب, وغفلتها عن علام الغيوب, قلوب اشتغلت بحب النساء والمردان، وأعرضت عن محبة الرحيم الرحمن، وما ذاك إلا لأنها شحنت بالشهوات, وأظلمت من أكل الحرام والشبهات, فصارت لا ترى المنكر قبيحا ولا المعروف مليحا{أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ}() فيا من تريد السعادة افرغ قلبك لله, واخلص له حبك, وارتقي إلى درجة الأحباب الذين عناهم الله –تعالى- بقوله: {فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ}() وإذا أحبك الله فإنه يقربك إليه ويقربك إلى خلقه, ويجعلك مهيبا في البشر، معظم القدر عند كل واحد، وأنه إذا أحب الله عبدا ألبسه صورة من صورته، ونفخ فيه روحا من روحه، حتى ينقاد له كل حجر ومدر، ويتواضع له كل طائر وسبع، بل قد يخصه بكرامات لا يمكن أن يطلع على معرفتها غير من خصه الله من أولياؤه (( أعددت لأوليائي مالا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر )) ().
وكم في العشق من مهالك، وكم فيه من خسائر، وكم فيه من حسرات.
قال ابن القيم متحدثا عن أضرار العشق: قالوا: وكم أكبت فتنة العشق رؤوسا على مناخرها في الجحيم، وأسلمتهم إلى مقاساة العذاب الأليم، وجرعتهم بين أطباق النار كؤوس الحميم، وكم أخرجت من شاء الله من العلم والدين كخروج الشعرة من العجين، وكم أزالت من نعمة، وأحلت من نقمة، وكم أنزلت من معقل عزه عزيزا فإذا هو في الأذلين، ووضعت من شريف رفيع القدر والمنصب فإذا هو في أسفل سافلين، وكم كشفت من عورة، وأحدثت من روعة، وأعقبت من ألم، وأحلت من ندم، وكم أضرمت من نار حسرات أحرقت فيها الأكباد، وأذهبت قدرا كان للعبد عند الله وفي قلوب العباد، وكم جلبت من جهد البلاء، ودرك الشقاء، وسوء القضاء، وشماتة الأعداء؛ فقل أن يفارقها زوال نعمة، أو فجاءة نقمة، أو تحويل عافية، أو طروق بلية، أو حدوث رزية؛ فلو سألت النعم ما الذي أزالك؟ والنقم ما الذي أدالك؟ والهموم والأحزان ما الذي جلبك؟ والعافية ما الذي أبعدك وجنبك؟ والستر ما الذي كشفك؟ والوجه ما الذي أذهب نورك وكسفك؟ والحياة ما الذي كدرك؟ وشمس الإيمان ما الذي كورك؟ وعزة النفس ما الذي أذلك؟ وبالهوان بعد الإكرام بدلك؟ لأجابتك بلسان الحال اعتبارا إن لم تجب بالمقال حوارا.
هذه والله بعض جنايات العشق على أصحابه لو كانوا يعقلون(){فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ}().
وما عاقل في الناس يحمد أمره ... ويذكر إلا وهو في الحب أحمق.
وما من فتى ذاق بؤس معيشة ... من الناس إلا ذاقها حين يعشق.
وتلك حالة مؤلمة أن ترى بعينك -أسال الله أن لا يجعلك منهم- أقوام همهم واستعدادهم التام للتضحية لجلب الحزن لنفوسهم الغالية, وذلك أنهم اتخذوا العشق سبيلا لتحريق أرواحهم الزكية، فتراهم في وادي العشق يهيمون، يجرون يلهثون يركضون وراء النساء والمردان, يحبون الأولاد الحلوة وجوههم حبا جما، فتنغلي قلوبهم كغليان الزيت, وتخور صدورهم كما يخور الثور الهائج, لا يطعمون لذة النوم والطعام والشراب.
فيا من ابتليت بهذا عد إلى رشدك، وافرغ قلبك لحب الله واحذر الحب الممنوع واحذر أن تشارك في قلبك أحد مع الله فيسلبك الله سعادة حياتك في الدنيا والآخرة.
فإذا ابتليت بهذا الحب ولم تستطع إخراجه من قلبك, فاجتنب تلك المرأة أو ذلك الأمرد، وغيّر مكان جلوسك، وغير رقم جوالك، وغير الحالات التي تربطك به, ولا يغرنك الشيطان بأنها ما هي إلا صحبة عادية, أو محبة لحسن خلقه, أو محبة لتقواه, فهذه طرق الشيطان ليوقعك في مصيدة الخسارة وسجن الهموم, فإن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم.
يقول ابن القيم موضحا لك خطورة عشق الصور وأنها طرق من طرق إبليس: ومن مكايده ومصايده ما فتن به عشاق الصور، وتلك لعمري والله " الفتنة الكبرى " والبلية العظمى التي استعبدت النفوس بغير خلاقها، وملكت النفوس لمن يسومها سوم الهوان من عشاقها، وألقت الحرب بين العشق والتوحيد، ودعت إلى موالاة كل شيطان مريد، فصيرت القلب للهوى أسيرا، وجعلته عليها حاكما وأميرا، فأوسعت القلوب فتنة، وملأتها محنة، وحالت بينها وبين رشدها، وصرفتها عن طريق قصدها، ونادت عليها في سوق الرقيق فباعتها بأبخس الأثمان، وعاضتها بأخس الحظوظ وأدنى المطالب عن المعالي في غرف الجنان، فضلا عما هو فوق ذلك من القرب من الرحمن، فسكنت إلى ذلك المحبوب الخسيس الدنيء المهابة أضعاف لذاتها، والوصول إليه أكبر أسباب مضرتها بما أوشكته حبيبا يستحيل عدوا عن قريب ويتبرأ منه محبة حتى كأنه لم يكن له بحبيب، وأن يمتنع به في هذه الدار فسوف يجد به أعظم الألم بعد حين لاسيما إذا صار الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين. فيا حسرة المحب الذي باع نفسه لغير الحبيب الأول بثمن بخس، وشهوة عاجلة ذهبت لذتها وبقيت تبعتها، وانقضت منفعتها، وبقيت مضرتها، فذهبت الشهوة وبقيت الشقوة، وزالت المسرة، وبقيت المضرة، فيا حسرتاه لصب جمع له بين الحسرتين: حسرة فوق المحبوب الأعلى والنعيم المقيم، وحسرة ما يقاسيه من النصب في العذاب الأليم. فهناك يعلم المخدوع أي بضاعة أضاع، وأن من كان مالك رقه قلبه لم يكن يصلح أن يكون له من جملة الخدم والأتباع فأي مصيبة أعظم من مصيبة ملك نزل عن سرير ملكه، وجعل لمن لا يصلح أن يكون مملوكه أسيرا، وجعل تحت أوامره ونواهيه مقهورا فلو رأيت قلبه وهو في يد محبوبه لرأيته:
كعصفورة في يد طفل يسومها... حياض الردى والطفل يلهو أو يلعب.
فهل يليق بالعاقل أن يتبع هذا الملك المطاع لمن يسومه سوء العذاب, ويوقع بينه وبين وليه ومولاه الحق الذي لا غنى له عنه ولا بد له منه أعظم الحجاب؟، فالمحب لمن أحبه قتيل، وهو له عبد خاضع ذليل، إن دعاه لباه، وإن قيل له ما تتمنى فهو غاية ما يتمناه، ولا يأنس بغيره، ولا يسكن إلى سواه، فحقيق به أن لا يملك رقه إلا الحبيب، وأن لا يبيع نصيبه بأحسن نصيب().
وأختم حديثي – أخي المبارك/ أختي المباركة- عليك بغض البصر عن النساء والمردان والصور التي تذهب سعادتك في الدنيا والآخرة, فإن غض البصر عن هؤلاء يورث حلاوة في القلب, وأن من غض بصره عن محاسن امرأة أو أمرد لله –تعالى-، أورث الله قلبه حلاوة إلى يوم يلقاه.