قال بعض العارفين: ارض عن الله في جميع ما يفعله بك, فإنه ما منعك إلا ليعطيك, ولا ابتلاك إلا ليعافيك, ولا أمرضك إلا ليشفيك, ولا أماتك إلا ليحييك. فإياك أن تفارق الرضا عنه طرفة عين, فتسقط من عينه().
المحن تطهير ليس معه زيف ولا دخل، وتصحيح لا يبقى معه غبش ولا خلل؛ إنها لتفتح في القلب منافذ ما كان ليعلمها المؤمن من نفسه لولا المحن.
ستتداعى عليك المصائب حتى تقول: متى نصر الله!؟ ألا إن نصر الله قريب, وذلك أن النفس لا تزكو وتصلح حتى تمحص بالبلاء كالذهب الذي لا يخلص جيده من رديئه حتى يفتن في كير الامتحان.
أن المصائب من حيثها هي رحمة للمؤمن، وزيادة في درجاته، كما قال بعض السلف: لولا مصائب الدنيا لوردنا الآخرة مفاليس().
والرب –سبحانه- لم يرسل البلاء إلى العبد ليهلكه ولا ليعذبه, ولكن امتحانا لصبره ورضاه عنه, واختبارا لإيمانه, وليراه طريحا ببابه, لائذا بجنابه, منكسر القلب بين يديه, فهذا من حيث المصائب الدنيوية, وأما ما جرى عليك فأنت به بالتهنئة أجدر من التعزية.
ولعمر الله إن من سلم له دينه فالمحن في حقه منح, والبلايا عطايا, والمكرهات له محبوبات.
قال ابن القيم –طيب الله ثراه-: اعلم أن النفوس تكتسب من العافية الدائمة، والنصر والغنى طغيانا وركونا إلى العاجلة، وذلك هو مرض يعوقها عن جدها في سيرها إلى الله والدار الآخرة، فإذا أراد بها ربها ومالكها وراحمها كرامته، قيض لها من الابتلاء والامتحان ما يكون دواء لذلك المرض العائق عن السير الحثيث إليه, فيكون ذلك البلاء والمحنة بمنزلة الطبيب يسقي العليل الدواء الكريه, ويقطع منه العروق المؤلمة، لاستخراج الأدواء منه، ولو تركه لَغلبته الأدواء، حتى يكون فيها هلاكه().
وإذا أحب الله عبدا ابتلاه، فإذا صبر، وثبت وعزم، ومضى وتقدم، أبدله الله من بلاء إلى عطاء، ومن محنة إلى منحة، ومن نقمة إلى نعمة، ومن فحسة إلى فسحة، ومن نكد إلى رقد، ومن القرح إلى المرح والفرح، ومن الهموم والغموم والفتور إلى السعادة والفرح والسرور.
إن البلايا تفتح في القلوب منافذ ما كان ليعلمها المؤمن من نفسه إلا حين تتعرض للابتلاء، وعند الابتلاء يتميز الغبش من الصفاء، والهلع من الصبر، والصدق من الكذب، والثقة من القنوط.
واعلم إن الابتلاء محك لا يخطئ، وميزان لا يظلم، والرخاء في ذلك كالشدة، والمؤمن الصادق ثابت في السراء والضراء.
فقد يظن الإنسان في نفسه قبل البلاء القدرة والتجرد والنزاهة؛ فإذا نزل البلاء، ووقعت الواقعة تبين من بكى ممن تباكى، وأدرك المرء أنه بحاجة إلى تمحيص ومراجعة، ومن الخير له أن يعتبر ويتعظ، ويستدرك قبل أن يكون عبرة ويقع ضحية{وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ}().
بالابتلاء تستيقظ النفوس، وترق القلوب بعد طول غفلة؛ فيتوجه العبد لربه، ويتضرع إليه، ويطلب رحمته وعفوه، ويعلن تمام العبودية له وحده، والتسليم الكامل لله رب العالمين لا سواه، وكفى بالتضرع دليلا على الرجوع إلى الله, ولجوءا إليه, وأملاً في الفرج من عنده، وحرزاً واقيا من الغفلة.
كم مغبوط بنعمة هي داؤه، ومحروم من دواء حرمانه هو شفاؤه! كم من خير منشور، وشر مستور! ورب محبوب في مكروه، ومكروه في محبوب!{وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ}().
انظر إلى محن الأنبياء والصالحين وكيف تحولت معهم المحن إلى منح، والبلاء إلى عطاء, والرازيا إلى هدايا.
ابتلى الله نوح فمنحه درجة لقب أبو البشرية بعد آدم -عليهما السلام-. وابتلى الله إبراهيم وزوجته سارة بالنمرود فأخدمهما هاجر فولدت إسماعيل لإبراهيم -عليهما الصلاة والسلام-، فكان من ذرية إسماعيل محمدا خاتم الأنبياء والمرسلين.
وابتلى الله يونس فأسلم القوم عن بكرة أبيهم.
وابتلى الله يوسف -عليه السلام- فنال منصب العزيز في مصر. وابتلى الله موسى فحصل على الزوجة والسكن والمال. وابتلى الله أيوب فعافاه الله وأبدل أهله ضعف ما كان له قبل البلاء. وابتلى الله عيسى فرفعه إليه وعلا شأنه. وابتلى الله محمدا ولم يبتلِ الله أحدا مثله، فأيده ونصره، وأنزل الملائكة لمناصرته، وأنزل السكينة لطمأنينة قلبه، ورفع شأنه، وأحيا ذكره، وملأ البقاع باسمه، وفتح له بلاد المشرق والمغرب.
وابتلى الله عائشة -رضي الله عنها-، فدافع الله عنها، وانزل فيها قرآنا يرفع من شأنها، وأعلا مقامها، فنالت درجة الصدّيقة العفيفة المطهرة.
وابتلى الله بلالا فصبر فأصبح مؤذن الرسول.
ومثل المؤمن المبتلى كمثل الخامة من الزرع تفيئها الريح، تصرعها مرة وتعدلها مرة, حتى تهيج فيصبح زرعا أخضر مستوي على سوقه يعجب الزراع نباته وحلو خضرته.
فأعظم بذلك من خير كان في طي تلك البلايا والمحن، قال بعضهم:
كم فرحة طوية ... لك بين أثناء النوائب
ومسرة قد أقبلت ... من حيث تنتظر المصائب..
وقال آخر:
خف إذا أصبحت ترجو ... وارج إن أصبحت خائف
رب مكروه مخوف ... فيه لله لطائف().
بمعنى أنه كم من نعمة مطوية لك بين أثناء المصائب التي تنتظرها, وكم رأيت من شيء مخوف وكريه, فيه لله لطائف خير عائدة لك.
ذكر أهل السير: أن رجلا أصابه الشلل، فأقعد في بيته، ومرت عليه سنوات طوال من الملل واليأس والإحباط، وعجز الأطباء في علاجه، وبلغوا أهله وأبناءه، وفي ذات يوم نزلت عليه عقرب من سقف منزله، ولم يستطع أن يتحرك من مكانه، فأتت إلى رأسه وضربته برأسها ضربات ولدغته لدغات، فاهتز جسمه من أخمص قدميه إلى مشاش رأسه، وإذا بالحياة تدب في أعضائه، وإذا بالبرء والشفاء يسير في أنحاء جسمه، وينتفض الرجل ويعود نشيطا، ثم يقف على قدميه، ثم يمشي في غرفته، ثم يفتح بابه، ويأتي أهله وأطفاله، فإذا الرجل واقفا، فما كانوا يصدقون وكادوا من الذهول يصعقون، فأخبرهم الخبر().
فالمحن والبلايا والمصائب لك فيها من الفوائد ما لا يعلمها إلا الله, منها ما يكون في الدنيا ومنها ما يدخره الله لك في الآخرة حيث السعادة والنعيم المقيم, ولكن اعلم أنه لا يرجى في الشدائد إلا الله، ولا يقصد في الملمات سواه، ولا تطلب الحوائج إلا من بابه؛ المفزع إليه، لا سند إلا سنده، ولا حول ولا قوة إلا به، لا ملجأ منه إلا إليه، ما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن، هو المتصرف في الملك، لا معقب لحكمه، لا إله إلا هو مفرج الهموم، ومنفس الكروب، ومبدد الأحزان والأشجان والغموم، جعل بعد الشدة فرجا، وبعد الضيق والضر سعة ومخرجا، لم يخل محنة من منحة، ولا نقمة من نعمة، ولا نكبة ورزية من هبة وعطية.