البلاء يصيب القلوب، ويصيب البطون، ويصيب الأجسام، ويصيب الأموال، ويصيب الأولاد والزوجات, وهذه سنة الله في خلقه فلا تحزن! ولا تيأس! فكل شيء له قضاء وقدر, وكل شيء له وقت, وكل شيء له عُمُر{فَإِذَا جَاء أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ}().
إذا مات ابنك فابتسم فهو قضاء الله وقدره! وإذا سقطت ابنتك فابتسم فإنه القضاء والقدر! فحزنك وبكاءك لا يردان لك ولدك ولا ابنتك, لأن الأقلام قد رُفعت, والصحف قد جفّت, والأمر قد حصل, والكلام انتهى, أتريد بحزنك وبكاءك أن ترد المطر إلى السماء, والشمس إلى مشرقها, وماء النهر إلى مجراه{مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا}().
اكثر من هذا الدعاء الذي أوصى به السعيد في كل أحواله -عليه الصلاة والسلام-: ((اللهم بعلمك الغيب، وقدرتك على الخلق، أحيني إذا كانت الحياة خيرا لي, وتوفني إذا كانت الوفاة خيرا لي, وأسألك خشيتك في الغيب والشهادة, وأسألك كلمة الحق في الغضب والرضا, وأسألك القصد في الفقر والغنى, وأسألك نعيما لا ينفد, وأسألك قرة عين لا تنقطع, وأسألك الرضا بعد القضاء, وأسألك برد العيش بعد الموت, وأسألك لذة النظر إلى وجهك الكريم, وأسألك الشوق إلى لقائك، في غير ضراء مضرة، ولا فتنة مضلة, اللهم زينا بزينة الإيمان, واجعلنا هداة مهتدين))().
السعيد من رضي عن الله, واستسلم لأوامر الله, وابتسم في عين عاصفة القضاء والقدر{وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى}(). فلن تهدأ أعصابك وتسكن بلابل نفسك، وتذهب وساوس صدرك حتى تؤمن بالقضاء والقدر، جف القلم بما أنت لاق فلا تذهب نفسك حسرات، لا تظن أنه كان بوسعك إيقاف الجدار أن ينهار، وحبس الماء أن ينسكب، ومنع الريح أن تهب، وحفظ الزجاج أن ينكسر، هذا ليس بصحيح على رغمي ورغمك، وسوف يقع المقدور، وينفذ القضاء، ويحل المكتوب{فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ}().
قال ابن القيم: والرضا يفرغ قلب العبد, ويقلل همه وغمه, فيتفرغ لعبادة ربه بقلب خفيف من أثقال الدنيا وهمومها وغمومها, كما ذكر ابن أبي الدنيا عن بشر بن بشار المجاشعي -وكان من العلماء- قال: قلت لعابد: أوصني, قال: ألق نفسك مع القدر حيث ألقاك, فهو أحرى أن يفرغ قلبك, ويقلل همك, وإياك أن تسخط ذلك، فيحل بك السخط وأنت عنه في غفلة لا تشعر به, فيلقيك مع الذي سخط الله عليهم.
وقال بعض السلف: ذروا التدبير والاختيار تكونوا في طيب من العيش. فإن التدبير والاختيار يكدر على الناس عيشهم().
حدث ابن أبي الدنيا عن وصايا الراضيين فقال: قال ابن عون: ارض بقضاء الله على ما كان من عسر ويسر, فإن ذلك أقل لهمك, وأبلغ فيما تطلب من آخرتك, واعلم أن العبد لن يصيب حقيقة الرضا حتى يكون رضاه عند الفقر والبلاء كرضاه عند الغنى والبلاء، كيف تستقضي الله في أمرك ثم تسخط إن رأيت قضاءه مخالفا لهواك, ولعل ما هويت من ذلك لو وفق لك لكان فيه هلكتك, وترضى قضاءه إذا وافق هواك وذلك لقلة علمك بالغيب وكيف تستقضيه إن كنت كذلك ما أنصفت من نفسك ولا أصبت باب الرضا().
فيا أيها المصاب: يا أيها المكروب! المصيبة واقعة؛ فوطِّنْ نفسك على أن كل مصيبة تأتي إنما هي بإذن الله -عز وجل- وقضائه وقدره، فسلّم الأمر له؛ فإنه كتب مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء أو يضروك بشيء لم ينفعوك ولم يضروك إلا بشيء قد كُتب لك أو عليك، ولو كان لرجل مثل أحد ذهباً ينفقه في سبيل الله لم يقبله الله منه حتى يؤمن بالقدر خيرِه وشرِّه، ويعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه، وإن مات على غير هذا أُدخل النار.
ابتسم كما ابتسم من قبلك عند مصائبهم, مات ولد لـ أنس بن مالك -عليه رحمة الله ورضوانه- فقال أنس -عند قبره-: الحمد لله، اللهم عبدك وابن عبدك، وقد رُدَّ إليك؛ فارْأف به، وارحمه، وجافِ الأرض عن بدنه، وافتح أبواب السماء لروحه، وتقبله بقبول حسن ثم انصرف، فأكل، وشرب، وادَّهن، وأصاب من أهله. ولسان حاله: {إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ}().
وكان أبو ذر -رضي الله عنه- لا يعيش له ولد، فقيل له: إنك امرؤ لا يبقى لك ولد.
فقال: الحمد لله، كل ذلك في كتاب، الحمد لله الذي يأخذهم في دار الفناء، ويدَّخرهم في دار البقاء.
وتموت ابنة لـ عبد الله بن عباس -رضي الله عنهما- وكان راكباً في طريقه إلى مكة ليأتيه الخبر، فنزل عن دابته، وصلى ركعتيْن، ثم رفع رأسه إلى السماء، وقال: الحمد لله، وإنا لله، عورةٌ سترها الله، ومئونة كفاها الله، وأجرٌ ساقه الله. ثم ركب، ومضى في رعاية الله.
ومات لـ عبد الله بن عامر سبعة أبناء في يوم واحد، والأمر مهول ومزعج وفظيع؛ فكيف استقبله هذا الرجل؟ قال: الحمد لله، إني مسلم مُسَلِّم.
وروى ابن أبي حاتم بسنده عن خالد بن يزيد عن عياض عن عقبة أنه مات له ابن يقال له: يحيى؛ فلما نزل في قبره قال له رجل: والله! إن كان لسيد الجيش فاحتسبه، فقال والده: وما يمنعني أن أحتسبه وقد كان من زينة الحياة الدنيا، وهو اليوم من الباقيات الصالحات.
يقول أبو علي -رحمه الله- صحبت الفضيل بن عياض -رحمه الله- ثلاثين سنة ما رأيته ضاحكاً متبسماً إلا يوم مات ابنه علي -رحمه الله-، فقلت: ما هذا؟ قال: إن الله -سبحانه- أحب أمراً، فأحببت أن أحبَّ ما أحب الله، وإنا لله وإنا إليه راجعون.
وضحك أحد السلف يوم مات ابنه، فقيل له: أتضحك في مثل هذا الحال؟! قال: نعم.
أردت أن أرغم الشيطان، وقضى الله القضاء، فأحب أن أرضى بقضائه؛ فهو أرحم الراحمين وأكرم الأكرمين().
إنه الإيمان بلسم الحياة، وأس الفضائل، ولجام الرذائل، وقوام الضمائر، وسند العزم في الشدائد، وبلسم العبر عند المصائب، وعماد الرضا والقناعة بالحظوظ، ونور الأمل في الصدور، وسكن النفوس، وعزاء القلوب إذا أوحشتها الخطوب، والعروة الوثقى عند حلول الموت بسكراته العظمى.
المؤمن في كل أحواله وأعماله الصالحة مثل أم موسى -عليه السلام-، ترضع ولدها، وتطفئ بذلك ظمأ نفسها وشغف قلبها، وتأخذ على ذلك أجراً، فكذلك المؤمن يسعد بإيمانه في الدنيا وبثواب إيمانه في الآخرة، وذلك فضل الله علينا وعلى الناس ولكن أكثر الناس لا يعلمون.