إن هدفك الذي تسعى لتحقيقه: سعادتك, وغاية مرادك إسعاد نفسك, وتحقيق عيش الأمان في الحياة, فلماذا تتعب نفسك في أمر منهيٌ عنه, ومطرود فعله؟ ولماذا تحزن والله نهى عن الحزن؟ وكيف تحزن والحزن لا يفيد, ولا ينفع, ولا يسمن ولا يغني من جوع؟. وما ذاك إلا لأن الحزن لا يجلب منفعة، ولا يدفع مضرة، فلا فائدة فيه، وما لا فائدة فيه لا يأمر الله به.
وأقول لك: عش في الحياة سعيدا, ومسرورا, وأدِّ ما عليك من حقوق وواجبات تنال السعادة في أكمل وجه, وفي أتمّ صورة, فحزنك موقوف على النهي {وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا}(){وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ}(){لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا}()وموقوف على النفي{فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ}()وموقوف على الدفع{الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ}()ومأمور بالتعوذ منه((اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْهَمِّ وَالْحَزَنِ)) () فأنا أريدك كما أراد ربك أن تعيش سعيدا مسرورا مرحا في الحياة, واطرد الحزن والهمّ .
وإن قيل لك الحزن مرغوب ومأمور به! يجيبك ابن القيم في كتابه مدارج السالكين مبينا سبب النهي عن الحزن: وسر ذلك أن الحزن موقف غير مسير، ولا مصلحة فيه للقلب، وأحب شيء إلى الشيطان أن يحزن العبد ليقطعه عن سيره، ويوقفه عن سلوكه، قال الله –تعالى-: {إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا}() ونهى النبي -صلى الله عليه وسلم- الثلاثة أن يتناجى اثنان منهم دون الثالث، لأن ذلك يحزنه. فالحزن ليس بمطلوب، ولا مقصود، ولا فيه فائدة، وقد استعاذ منه النبي -صلى الله عليه وسلم-، فقال: ((اللهم إني أعوذ بك من الهمّ والحزن)) فهو قرين الهم، والفرق بينهما أن المكروه الذي يرد على القلب، إن كان لما يستقبل أورثه الهم، وإن كان لما مضى أورثه الحزن، وكلاهما مضعف للقلب عن السير، مقتر للعزم.
ولكن نزول منزلته ضروري بحسب الواقع، ولهذا يقول أهل الجنة إذا دخلوها: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ}() فهذا يدل على أنهم كان يصيبهم في الدنيا الحزن، كما يصيبهم سائر المصائب التي تجري عليهم بغير اختيارهم.
وأما قوله –تعالى-: {وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَنْ لَا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ}()فلم يمدحوا على نفس الحزن، وإنما مدحوا على ما دل عليه الحزن من قوة إيمانهم، حيث تخلفوا عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لعجزهم عن النفقة، ففيه تعريض بالمنافقين الذين لم يحزنوا على تخلفهم، بل غبطوا نفوسهم به.
وأما قوله -صلى الله عليه وسلم- في الحديث المتفق عليه ((ما يصيب المؤمن من هم ولا نصب ولا حزن إلا كفر الله به من خطاياه)) فهذا يدل على أنه مصيبة من الله يصيب بها العبد، يكفر بها من سيئاته، لا يدل على أنه مقام ينبغي طلبه واستيطانه.
وأما حديث هند بن أبي هالة في صفة النبي -صلى الله عليه وسلم- إنه كان متواصل الأحزان فحديث لا يثبت، وفي إسناده من لا يعرف.
وكيف يكون متواصل الأحزان، وقد صانه الله عن الحزن على الدنيا وأسبابها، ونهاه عن الحزن على الكفار، وغفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر؟ فمن أين يأتيه الحزن؟.
بل كان دائم البشر، ضحوك السن، كما في صفته: "الضحوك القتال" صلوات الله وسلامه عليه.
وأما الخبر المروي: "((إن الله يحب كل قلب حزين))" فلا يعرف إسناده، ولا من رواه، ولا تعلم صحته.
وعلى تقدير صحته فالحزن مصيبة من المصائب، التي يبتلي الله بها عبده، فإذا ابتلى به العبد فصبر عليه، أحب صبره على بلائه.
وأما الأثر الآخر: "((إذا أحب الله عبدا نصب في قلبه نائحة، وإذا أبغض عبدا جعل في قلبه مزمارا))" فأثر إسرائيلي، قيل: إنه في التوراة، وله معنى صحيح، فإن المؤمن حزين على ذنوبه، والفاجر لاه لاعب، مترنم فرح.
وأما قوله –تعالى- عن نبيه إسرائيل: {وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ}() فهو إخبار عن حاله بمصابه بفقد ولده، وحبيبه، وأنه ابتلاه بذلك كما ابتلاه بالتفريق بينه وبينه.
وأجمع أرباب السلوك على أن حزن الدنيا غير محمود إلا أبا عثمان الحيري، فإنه قال: الحزن بكل وجه فضيلة، وزيادة للمؤمن، ما لم يكن بسبب معصية، قال: لأنه إن لم يوجب تخصيصا، فإنه يوجب تمحيصا.
فيقال: لا ريب أنه محنة وبلاء من الله، بمنزلة المرض والهمّ والغمّ، وأما إنه من منازل الطريق فلا, والله أعلم()..
إذاً: فلا حاجة للحزن, ولا داعي للهموم, ما دام أن الله نهى عنه, ورسول الله –صلى الله عليه وسلم– لم يتصف به, بل كان أسعد الناس, وأشرحهم, وأنقاهم, فهو خيرة الله من خلقه, وصفيه ونعم الصفي ونعم الخلق, ومن تتبع سيرته وجدها سعادة تملأ الآفاق, وسرور يملأ الأرض, ونور يضئ ما بين الأرض والسموات.
فكيف يكون حزينا وهو الهادي لكل ضال, والمرشد لكل حائر, والنور لكل ظلام, والأنيس لكل وحيد, والبشرى لكل كئيب, والمسعد لكل حزين, واليسر لكل معسور, وسعادته تملأ الوجود, فصلوات ربي وسلامه عليه.
فلا تحزن! فتذهب سعادتك فيه, وحياتك عليه, وعمرك وراه..