إن نفرا من الناس إن سألت عن حالتهم المادية فهم بخير وعلى خير, وإن سألت عن حالتهم الجسدية فهم بخير وعلى أتمّ صحة, وإن سألت عن حالتهم الاجتماعية فهم على خير وبينهم كل خير؛ ولكن ّالعجيب! أنهم يصنعون شيئا اسمه الحزن واليأس وعبوس الوجه, فحزنهم غير موجود بنفسه ولكنهم يصنعونه بأنفسهم, فتجد البعض منهم منكس الرأس حزين, والبعض دائم البكاء لغير أسباب, والبعض دائم التفكير, والبعض قليل الكلام لأنه ضابح من حياته, وبعضهم يسبُّ الحياة, وبعضهم يسبُّ العيشة, وبعضهم جاعل حالته على الواتس آب: "يا موت خذني كم بدنياي عانيت"!!, "شابع حياة!!" وبعضهم عامل على الفيسبوك: "يا همومي ارحميني ما عاد أقوى من الصبر"!, وبعضهم عامل صورة أُناس يبكون ويتألمون وأثر الدماء على وجوههم وعلى صدورهم!. عن أيّ حزن يتحدث هؤلاء؟! وأيُّ حزن لاقوا حتى أصبح حالهم هذا؟!.
إن هذا من الإسراف والتبذير في المعيشة فبدل أن يحمدوا الله على عيشتهم الطيّبة المستقرة صنعوا لأنفسهم أحزان يتسخطوا بها على الله, ولو أنهم أسعدوا قلوبهم وعاشوا الحياة كما هي حلوة طيبة, ووضعوا على حالة التواصل الاجتماعي لديهم: "نحن قوم أعزنا الله بالإسلام" لكان ذلك خير لهم وأحسن وأشرف وأعزُّ وأسعد{وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ}().
فلا تصنع الحزن! ولا تشتري الحزن! ولا تبحث عن الحزن! وتغافل عنه.
لماذا تحزن؟! وأنت تأكل من أجود الطعام, وتأكل حتى تشبع دون أحد يرغمك, وتشرب من أعذب الماء, وتشرب حتى تروى, وتنام الليل والنهار في فراش خاص لك, وأي وقت أردت أن تنام تنام, وتجلس مع زوجتك, وتنام معها, وتجلس بين أولادك, وتروح وتذهب وتعود وتأوي, وأي وقت أردت قضاء حاجتك قضيتها, وتعيش في مجتمعك وأنت آمن مرتاح البال والنفس, لا شيء يحزنك ولا يرعبك ولا يخيفك, وتتمتع بكامل قواك الجسدية والعقلية, وتضحك وتتحرك والأمور بحمد الله بخير وعلى ما يرام!!. فلماذا تصنع الحزن وتبحث عليه وهو بالفعل هارب منك؟!.
احمد الله –تعالى- واشكره على هذه النعم فغيرك يتمنى واحدة منها, وحتى تعرف أنك في أتمّ النعمة اقرأ هذه القصة حينها ستعرف مقدار النعمة التي أنت فيها وحتما ستنكر على من يصنع الحزن وستقول له اتق الله واحمد الله فأنت بخير.
عروة بن الزبير قُطعت رجله لمرض أصابه, وفي نفس الوقت مات واحد من أبناءه السبعة وهو فلذة كبده وأعزّ أبناءه إليه. فقال عروة اللهم لك الحمد وإنا لله وإنا إليه راجعون, أعطاني سبعة أبناء وأخذ واحدا, وأعطاني أربعة أطراف وأخذ واحدا, إن ابتلى فطالما عافا, وإن أخذ فطالما أعطى, وإني أسال الله –تعالى- أن يجمعني بهم في الجنة.
ومرت الأيام ... وذات يوم دخل مجلس الخليفة, وكان هناك شيخا كبيرا في السنِّ مهشم الوجه, أعمى البصر, فقال الخليفة: يا عروة! سَلْ هذا الشيخ عن قصته. فقال عروة: ما قصتك يا هذا؟!. فقال الشيخ: يا عروة! لي قصة عجيبة! فقد بِتُ ذات ليلة في وادٍ وليس في ذلك الوادي غنيٌ سواي, معي الكثير من المال والحلال والعيال, فأتانا سيل في الليل فأخذ عيالي ومالي وحلالي. وطلعت الشمس في الغدِ وأنا لا أملك إلا نفسي وطفلا لي وبعيرا, فهرب البعير فأردت اللحاق به فابتعد عني وأنا أُلاحقه حتى سمعت صوت صراخ طفلي فعدتُ فإذا رأسُ طفلي قد نزعه الذئبُ فلم أستطع إنقاذه, فعدتُ إلى البعير فاقتربتُ منه فضربني بخفه على وجهي وأعمى بصري!!
فقال عروة: وما تقول يا هذا بعد كل هذا؟!!. فقال الشيخ: أقول الحمد لله الذي ترك لي قلبا عامرا ولسانا ذاكرا().
هذا هو الصبر على البلاء, وهذا هو الحزن الذي يستحقّ الصبر!, ونحن ما الذي أصابنا حتى نحزن؟!! وما هي مصائبنا حتى نضيق؟!! وما هي بلاوينا حتى نكتب عبارات الحزن على جوالاتنا؟!!.