الحياة في ظلال القرآن نعمة. نعمة لا يعرفها إلّا من ذاقها, نعمة ترفع العمر وتباركه وتزكيه.
والحمد لله.. لقد منّ عليّ بالحياة في ظلال القرآن، ذقت من نعمته ما لم أذق قط في حياتي, ذقت فيها هذه النعمة التي ترفع العمر وتباركه وتزكيه.
عشتُ في ظلال القرآن منذُ الطفولة, عشتُ في سعادة القرآن منذُ الصغر, فتارة أعيش بنفسي في ظلاله وتدبر آياته, وتارة أعيش في ظلاله من سماعه والإنصات له, إنها حياة لا يشعر بها إلا من عاش في ظلال القرآن.
ومن سعادتي في ظلاله حفظتُ سوره وآياته, ولم أحفظ أسماء دول العالم, عيشي في ظلال القرآن أنساني العالم وأخباره, والدنيا وهمومها, حتى شعرتُ وكأنّي أحكم العالم, وأنّ العالم تحت يدي.
ذات ليلة بعد صلاة المغرب مباشرة وأنا لم أُصلي المغرب في المسجد لسبب أعذرني فشعرت بضيق وكآبة وهموم جاءت إليّ من تلقاء نفسها, فتوضيتُ وذهبتُ إلى المسجد وأنا في شوق للعيش في ظلال القرآن حتى ينسيني كل همومي وضيقي, ومن شدة استعجالي للعيش تحت ظلاله لم أُصلي حتى تحية المسجد, فجلستُ والمصحف في يدي أقرأ وأعيش في ظلالٍ على الأرائك متكئون, فورب السماء والأرض أني حين أُقلب صفحات القرآن شعرتُ وكأنّي أتنقل في دول العالم دولةً دولة!! وكلما قرأتُ من سورة وجدت الأُخرى تشرحني أكثر فأكثر, ومرّ الوقت وكأنّه دقيقة من شدة السرور التي لقيته في ظلال القرآن, وتمنيتُ لو أن الوقت الذي بين المغرب والعشاء اثني عشرة ساعة ما حسيتُ به!!.
إنه القرآن ينقلك من عالم إلى أخر, ومن أرض إلى أُخرى. أي طمأنينة ينشئها هذا التصور؟ وأي سكينة يفيضها على القلب؟ وأي ثقة في الحق والخير والصلاح؟ وأي قوة واستعلاء على الواقع الصغير يسكبها في الضمير؟.
يقول صاحب ظلال القرآن: الحياة في ظلال القرآن نعمة, نعمة لا يعرفها إلا من ذاقها, نعمة ترفع العمر وتباركه وتزكيه, والحمد لله لقد منّ علىّ بالحياة فى ظلال القرآن فترة من الزمان, ذقت فيها من نعمته ما لم أذق قط في حياتي .. عشت أتملّى في ظلال القرآن ذلك التصور الكامل الشامل الرفيع النظيف للوجود, لغاية الوجود كله وغاية الوجود الإنساني .. وعشتُ في ظلال القرآن أحس التناسق الجميل بين حركة الإنسان كما يريدها الله، وحركة هذا الكون الذي أبدعه الله.. ثم أنظر.. فأرى التخبط الذي تعانيه البشرية في انحرافها عن السنن الكونية، والتصادم بين التعاليم الفاسدة الشريرة التي تملى عليها وبين فطرتها التي فطرها الله عليها. وأقول في نفسي: أي شيطان لئيم هذا الذي يقود خطاها إلى هذا الجحيم؟.
عشتُ في ظلال القرآن هادئ النفس، مطمئن السريرة، قرير الضمير, منشرح الصدر, مريح القلب, ... عشتُ أرى يد الله في كل حادث وفي كل أمر. عشتُ في كنف الله وفي رعايته. عشت أستشعر إيجابية صفاته –تعالى- وفاعليتها.. {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذا دَعاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ؟}().. {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً(2)وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بالِغُ أَمْرِهِ}().. إن الوجود ليس متروكا لقوانين آلية صماء عمياء. فهناك دائما وراء السنن الإرادة المدبرة، والمشيئة المطلقة, قوة قاهرة تحرك كل شيء, وتدبر كل شيء .. والله يخلق ما يشاء ويختار. كذلك تعلمتُ أن يد الله تعمل. ولكنها تعمل بطريقتها الخاصة وأنه ليس لنا أن نستعجلها ولا أن نقترح على الله شيئا. فالمنهج الإلهي كما يبدو في ظلال القرآن موضوع ليعمل في كل بيئة، وفي كل مرحلة من مراحل النشأة الإنسانية، وفي كل حالة من حالات النفس البشرية الواحدة.. وهو موضوع لهذا الإنسان الذي يعيش في هذه الأرض، آخذ في الاعتبار فطرة هذا الإنسان وطاقاته واستعداداته، وقوته وضعفه، وحالاته المتغيرة التي تعتريه.. إن ظنه لا يسوء بهذا الكائن فيحتقر دوره في الأرض، أو يهدر قيمته في صورة من صور حياته، سواء وهو فرد أو وهو عضو في جماعة. كذلك هو لا يهيم مع الخيال فيرفع هذا الكائن فوق قدره وفوق طاقته وفوق مهمته التي أنشأه الله لها يوم أنشأه.. ولا يفترض في كلتا الحالتين أن مقومات فطرته سطحية تنشأ بقانون أو تكشط بجرة قلم!... وانتهيت من فترة الحياة في ظلال القرآن إلى يقين جازم حاسم.. إنه لا صلاح لهذه الأرض، ولا راحة لهذه البشرية، ولا طمأنينة لهذا الإنسان، ولا سعادة ,ولا رفعة ولا بركة ولا طهارة، ولا تناسق مع سنن الكون وفطرة الحياة.. إلا بالرجوع إلى الله...والرجوع إلى الله له صورة واحدة وطريق واحد.. واحد لا سواه.. إنه العودة بالحياة كلها إلى منهج الله الذي رسمه للبشرية في كتابه الكريم.. إنه تحكيم هذا الكتاب وحده في حياتها. والتحاكم إليه وحده في شؤونها. وإلا فهو الفساد في الأرض، والشقاوة للناس، والارتكاس في الحمأة، والجاهلية التي تعبد الهوى من دون الله{فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّما يَتَّبِعُونَ أَهْواءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَواهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ}()... وأن نزوله كان للجن مفاجأة أطارت تماسكهم، وزلزلت قلوبهم، وهزت مشاعرهم، وأطلقت في كيانهم دفعة عنيفة من التأثر امتلأ بها كيانهم كله وفاض، فانطلقوا إلى قومهم بنفوس محتشدة مملوءة فائضة بما لا تملك له دفعا، ولا تملك عليه صبرا، قبل أن تفيضه على الآخرين في هذا الأسلوب المتدفق، النابض بالحرارة والانفعال، وبالجد والاحتفال في نفس الأوان، وهي حالة من يفاجأ أول مرة بدفعة قوية ترج كيانه، وتخلخل تماسكه، وتدفعه دفعا إلى نقل ما يحسه إلى نفوس الآخرين في حماسة واندفاع، وفي جد كذلك واحتفال!{إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً (1) يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ}().
فأول ما بدههم منه أنه «عجب» غير مألوف، وأنه يثير الدهش في القلوب، وهذه صفة القرآن عند من يتلقاه بحس واع وقلب مفتوح، ومشاعر مرهفة، وذوق ذواق .. عجب! ذو سلطان متسلط، وذو جاذبية غلابة، وذو إيقاع يلمس المشاعر ويهز أوتار القلوب.. عجب! فعلا. يدل على أن أولئك النفر من الجن كانوا حقيقة يتذوقون!{يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ}..
وهذه هي الصفة الثانية البارزة كذلك في هذا القرآن، والتي أحسها النفر من الجن، حين وجدوا حقيقتها في قلوبهم .. وكلمة الرشد في ذاتها ذات دلالة واسعة المدى. فهو يهدي إلى الهدى والحق والصواب. ولكن كلمة الرشد تلقي ظلا آخر وراء هذا كله. ظل النضوج والاستواء والمعرفة الرشيدة للهدى والحق والصواب. ظل الإدراك الذاتي البصير لهذه الحقائق والمقومات، فهو ينشئ حالة ذاتية في النفس تهتدي بها إلى الخير والصواب.
والقرآن يهدي إلى الرشد بما ينشئه في القلب من تفتح وحساسية، وإدراك ومعرفة، واتصال بمصدر النور والهدى، واتساق مع النواميس الإلهية الكبرى. كما يهدي إلى الرشد بمنهجه التنظيمي للحياة وتصريفها.
{فَآمَنَّا بِهِ} .. وهي الاستجابة الطبيعية المستقيمة لسماع القرآن، وإدراك طبيعته، والتأثر بحقيقته .. يعرضها الوحي على المشركين الذين كانوا يسمعون هذا القرآن ثم لا يؤمنون. وفي الوقت ذاته ينسبونه إلى الجن، فيقولون: كاهن أو شاعر أو مجنون .. وكلها صفات للجن فيها تأثير. وهؤلاء هم الجن مبهورين بالقرآن مسحورين متأثرين أشد التأثر، منفعلين أشد الانفعال، لا يملكون أنفسهم من الهزة التي ترج كيانهم رجا .. ثم يعرفون الحق، فيستجيبون له مذعنين معلنين هذا الإذعان{فَآمَنَّا بِهِ} غير منكرين لما مس نفوسهم منه ولا معاندين، كما كان المشركون يفعلون!().