الصبر هو الحلو الوحيد الذي فاق العسل بحلاوته, وفاق الماء بعطش الجسم إليه, وفاق الطعام بحاجة البطن إليه, وفاق الدواء بحاجة الجسم إليه, كان يقال: يحتاج المؤمن إلى الصبر كما يحتاج إلى الطعام والشراب.
اصبر وكابد الحياة, فالحياة مفطورة على الكبد, وعلى النكد, وعلى التعب, واصبر وكن أقوى من الجبال, وأصلب من الحديد, وأوسع من الأرض, فلا فرح لمن لا هم له، ولا لذة لمن لا صبر له، ولا نعيم لمن لا شقاء له، ولا راحة لمن لا تعب له، بل إذا تعب العبد قليلاً استراح طويلا، وإذا تحمل مشقة الصبر ساعة؛ قاده ذلك لسعادة الأبد، وكل ما فيه أهل النعيم المقيم إنما هو صبر ساعة. قال الحسن: إنما يصيب الإنسان الخير في صبر ساعة().
فكل لذة منقطعة عند كل غمسة في جهنم، وكل بؤس وشقاء ينقطع عند أول غمسة في الجنة، وللباطل جولة ثم يذهب هباء، والحق له صولة وهو أنفع وله البقاء، فإذا أدلهمّ الخطب، واشتد الظلام، فارتقب بزوغ الفجر، وتبين الخيط الأبيض من الأسود من الفجر، ثم أصبر وصابر فإن العاقبة للمتقين, وخاب المبطلون، وبشر الصابرين، واصبر على ما يقولون.
لا يفزعنك هول خطب دامس ... فلعل في طياته ما يسعد
لو لم يمد الليل جنح ظلامه ... في الخافقين لما أضاء الفرقد.
اصبر فالصبر أجمل من الورود, وأعذب من الماء, وأحلى من العسل, وهو بلسم وظل وارف من الطمأنينة, وفيض من الأمن والسكينة, ووقاية من الشرور, وحافز على العمل، والصبر مر مذاقه لذيذة عاقبته.
صبرت ومن يصبر يجد غب صبره ... ألذ وأحلى من جنى النحل في الفم.
فلا تحزن! فلهيب الشمس يطفئه وارف الظل، وظمأ الهاجرة يبرده الماء النمير، وعضة الجوع يسكنها الخبز الدافئ، ومعاناة السهر يعقبه نوم لذيذ، وآلام المرض تزيلها هناء العافية، فما عليك إلا الصبر قليلاً والانتظار لحظة.
{فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ}()وانتظر الفرج بعد الصبر, وأن النصر حليف الصبر, وأن الصبر طريق السعادة والسرور, حتى وإن أُوذيت, وعُوديت, وأُخرجت, وطردت, فاصبر{إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ}().
اصبر واقتدِ بمن قبلك, الذين ذاقوا أشدّ البلاء والمحن. هذا إبراهيم, والده يعاديه, وزوجته في الصحراء وحيدة, والسكين على رقبة أبنه وفلذة كبده, والقوم يريدون إلقاءه في النار, ومع هذا ثبت بالصبر ثبوت الجبال.
وهذا يونس -عليه السلام-, في ظلمات ثلاث, ظلمة الليل, وظلمة البحر, وظلمة بطن الحوت, لا أكل ولا شرب ولا سرير ولا زوجة ولا أنيس ولا جليس ولا حبيب, انقطعت عنه الأسباب, وأُغلقت أمامه الأبواب, وحيدا بدون أصحاب, ومع هذا كان يلهث بالدعاء صابرا محتسبا الفكاك والخلاص من الله.
وهذا يعقوب -عليه السلام-, في أشد البلاء يصبر, في النكبات يحتسب, في المحن يرجو الفرج من الله{فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ}()فارق ابنه سنينَ عددا, فلم يبصره ولا إليه رددا, وصبر على كيد أولاده الحسدة, فصبر على الفراق والغربة والبعد والكبد.
وهذا يوسف -عليه السلام-, إخوانه أرادوا يقتلوه, وفي بئر عميقة ألقوه, وبسعر بخس باعوه, وبدون سبب سجنوه, فصبر على البلاء, ولم يجزع ولم يضجر, ولم يسخط ولم يملّ, ولم يضعف ولم يجبن, بل ثبت ثبوت الجبال الرواسي.
وهذا موسى -عليه السلام-, صبر على قومه كثير, ونال منهم الأذى الكبير, فرعون يسبه سباً, وقومه يخدعونه خدعا, واتهموه بالزنا كذبا, وبالسحر افتراء وإثماً, قال -عليه الصلاة والسلام-: (( رحم الله أخي موسى فقد آذاه قومه بأكثر من هذا فصبر )) () وابتلاه الله بالفقر فصبر صبرا, ولم يجزع جزعا, وتحمل المشاق والمتاعب أمداً ودهرا, فصبر, فنال الدرجات العلياء, والكرامات, والحمايات, والنصر, وعاش عيشة السعداء{فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهاً}().
وهذا القدوة والأُسوة: رسول الله –صلى الله عليه وسلم-, ابتلي على كافة الأصعدة، في صعيد المعركة ابتلي بالقتال، فصبر واحتسب، مات ابنه -عليه الصلاة والسلام- فلذة كبده وشجا روحه، وهو في العامين من عمره، فصبر واحتسب، حتى قال: ((تدمع العين، ويحزن القلب، ولا نقول إلا ما يرضي ربنا، وإنا بفراقك يا إبراهيم لمحزونون ))().
وابتلي بفقد بناته، فصبر واحتسب، وجلس عند قبرٍ، وأخذ ينكت الأرض ويبكي ويقول: ((والذي نفسي بيده، لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً ))().
وابتلي في دعوته بالشائعات، فقالوا ساحر، وشاعر، وكاهن، فصبر واحتسب.
وابتلي في بدنه, شجّ رأسه, وكُسرت ثنيته, وسال الدم من وجهه, وأُلقي الحجر على رأسه, وأُلقي السُلى على ظهره, وطُرح الشوك باب بيته, فصبر واحتسب.
وابتلي في عرضه, وفي زوجته المعصومة, أُتهمت بالفاحشة ظلما وزروا وبهتانا, حتى قالت من شدة ما لاقت من العذاب: {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ}().
فصبر رسول الله –صلى الله عليه وسلم– هذا الصبر واحتسب, فداك آباءنا وأُمهاتنا وأرواحنا يا رسول الله!.
فيا أيها الفقير: صبر جميل, واصبر وما صبرك إلا بالله، اصبر صبر واثق بالفرج، عالم بحسن المصير، طالب للأجر، راغب في تكفير السيئات، اصبر مهما ادلهمت الخطوب، وأظلمت أمامك الدروب، فإن النصر مع الصبر، وأن الفرج مع الكرب، وإن مع العسر يسرا.
قرأت سير عظماء مروا في هذه الدنيا، وذهلت لعظيم صبرهم وقوة احتمالهم، كانت المصائب تقع على رؤوسهم كأنها قطرات ماء باردة، وهم في ثبات الجبال، وفي رسوخ الحق، فما هو إلا وقت قصير فتشرق وجوههم على طلائع فجر الفرج، وفرحة الفتح، وعصر النصر. وأحدهم ما اكتفى بالصبر وحده، بل نازل الكوارث، وصاح في وجه المصائب متحديا().
سقيناهُمُو كأساً سقوْنا بمثلِها ... ولكنَّنا كُنا على الموتِ أصبرا.