أذا أردت سعادة قلبك, ورضا ضميرك, وراحة صدرك, والعيش في وقار القلب وهدوءه؛ فعليك أن لا تتشرط الأجر الكثير, بل ارضَ بالقليل, حتما -بإذن الله- يأتيك الكثير, فخير الله واسع, وفضله شامل, ورحمته واسعة, ورزقه لا ينفد, وخزائنه مملوءة, وكرمه كثير, وجوده أكثر, وعدله مضبوط, وتكفله بالأرزاق مضمون{يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ}(){وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ}().
فإذا كان الله سيتكفل لك برزقك, ويرزقك وأنت لا تدري, وفضله عليك جاري, ورحمته إليك تتنزل, وخيره إليك نازل. فما الذي يقلقك حتى تتطلب المزيد من المال؟ وما الذي يحزنك على أنك أخذت قليلا؟ وما الذي يغضبك على أنهم أعطوك أجرا قليلا؟ تمعّن في هذه الآية, ستدرك أن القليل هو المال المبارك, وأن الكثير هو المنتهي والممحوق من البركة, وستدرك أن الحياة الطيّبة, والراحة النفسيّة, والعيشة السعيدة, هي ليست بكثرة المال, ولا بكثرة العيال, ولا بكثرة السيارات, ولا بكثرة البساتين, ولا بكثرة القصور, ولا بكثرة الزوجات؛ إنها حياة القلوب المملوءة والممزوجة بالإيمان, وقليلا من الزاد والمال, الذي يعينك على السفر والترحال{مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (96) مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}().
إذاً: فكن في فرح دائم, وسعادة أبدية, وحياة مطمئنة, مما أُوتيت, وارض بالقليل تجد فيه البركة, ولا تتطلب الكثير ففيه المحق والدبور, فافرح, واسعد, واحمد الله أنك حصلت على هذا القليل فغيرك يتمناه{قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ}(){فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ}().
ذكروا أن رجلا من أهل حضرموت الشقيقة وكان تاجرا فتوقف يوما بسيارته الحديثة في مكان يتجمع فيه العمال في وسط البلد وقال لهم: من يريد الشغل معي بـ الف ريال –طبعا يمني- طوال هذا اليوم فليركب معي؟ والكثير من العمال لم يرضَ بالقليل, فحاولوا إفهام الرجل أن المبلغ قليل وأنهم يريدون الزيادة, ولكنه رفض بشدة, وفي نهاية الأمر صعد معه على السيارة ثلاثة أشخاص من كبار السنّ يبدوا عليهم أثر البؤس والفقر الشديد.
فانطلق بسيارته ومن معه من العمال الثلاثة وتوقف بهم عند أحد التجار, واشترى لكلّ واحد منهم كيس دقيق, وبعضا من السكر والرز والزيت وأعطى كل واحد منهم ألفين ريال نقدا, وقال لهم ببسمة: انتهى عملكم معي اليوم وبإمكانكم العودة إلى بيوتكم.
أنها القناعة تجلب الخير الكثير, رضوا بالقليل فأتاهم الله الكثير.
فارضَ بالقليل, يأتيك الكثير, واطلب من الله البركة فيه, فالبركة تدخل في الشيء فتجعل القليل كثيراً، والبركة تدخل الجسم فتجعل الضعيف قوياً، وتجعل الذليل عزيزاً، وتجعل البعيد قريباً، والبركة مادة إكسير الحياة، وهي مثل الحب، إذا وضعت في شيء نما وزاد -بإذن الله- وهي بركة من الله، والبركة إذا نزعت من الشيء لا ينفع كثيره فيصبح خبيثاً، ولا ينفع قويه فيصبح ضعيفاً، ولا ينفع قريبه فيصبح بعيداً، وتتقطع به الحبال.
فالبركة من الواحد الأحد، ينزل الغيث بلا بركة فيسيل ماءً لا ينتفع به، وتنزل البركة في الماء القليل فيصبح مدراراً غزيراً وينتفع به.
ارضَ بالقليل وقل: اللهم بارك لي فيما أعطيت. فإذا لم يبارك الله -عز وجل-؛ لا ينفع مال ولا ولد ولا زوجة ولا مسكن، وإذا نزعت البركة أصبح العبد مطروداً عن باب الواحد الأحد، فعليك أن تطلب من الله البركة، ولا تطلب الكثرة بلا بركة، فإنها لا تنفع ولا تجدي، فقد كان كثير من الفجرة والطغاة والخونة على مر التاريخ -ولا زالوا-؛ يملكون القصور، والدور, والملايين والسيارات، ويلعبون بالشيكات، ومع ذلك نزع الله البركة من أموالهم، فما استفادوا منها لا في دنيا ولا آخرة، ولا رفعوا بها معلماً، ولا حاربوا بها أعداء الله، ولا نصروا بها الدين، ولا أنفقوها في سبل الخير، إنما أنفقوها في أغنية ماجنة، أو مطاردة صيد، أو لهو ولعب، أو خمر وسهر، فهذا من نزع البركة -والعياذ بالله- وربما تحمل أنت درهماً واحداً, أو ريالاً واحداً، أجدى وأفضل عند الله ممّن يحمل مليوناً؛ لأنها نزعت منها البركة.
فكن قانعا في الدنيا بالقليل, فقد تحرم منه, والدنيا إنما تزيد قلب الإنسان شعثاً وتفرقاً، فإذا رضي منها بالقليل وقنع, أصبح عزيزاً سعيداً بهذا القليل.
وجدت القناعة أصل الغنى ... فصرت بأذيالها ممتسك
فلا ذا يراني على بـــــــــــــابه ... ولا ذا يراني به منهمك
وعشت غنياً بلا درهم ... أمر على الناس شبه الملك.