رضاء الناس غاية لا تُدرك, ورضاء الله غاية لا تُترك, فأترك ما لا يُدرك, وأدرك ما لا يُترك, وإرضاء الله مقدور ومأمور، وإرضاء الناس ليس بمقدور ولا مأمور.
إرضاء البشر ليس بالأمر السهل؛ لأن علمهم قاصر، وعقولهم محدودة، يعتَريهم الهوى، ويعتريهم النقص، ويتفاوتون في الفهم والإدراك، فلا يمكن إرضاؤهم.
البعض عندهم عائق في الحياة اسمه: الخوف من الناس, كلما أراد أن يفعل شيء تلفت يمنة ويسرة هل يراكم من أحد؛ لأنه خائف.
أخي! اعلم أن الخوف من الناس له حدود, فما وافق الشرع فمن حقك أن تلتفت يمينا وشمالا, وما خالف الشرع فلا تلتفت إلى أي جهة إلا إلى رضاء الله –تعالى-.
قال الإمام الشافعي: يا أبا موسى رضاء الناس غاية لا تدرك, ليس إلى السلامة من الناس سبيل. فانظر ما فيه صلاح نفسك فالزمه ودع الناس وما هم فيه().
إنك تعيش في عالم النقص والتقصير, فمن مدحك اليوم ربما سيذمك غدا, ومن ذمك اليوم يمكن أن يمدحك غدا, وهذه هي سنة الإنسان في الحياة, ليسوا على طبع واحد ولا على لون واحد.
والحياة تجد فيها أنواعا وأصنافا من البشر, قلّما تجد فيها صالحون, وإلا فيها حاسد وحاقد ومعاند, وخاسئ وماكر ومحايد, وسيء الطبع وفتان ومنافق... وتجد فيها الكثير والكثير, وإذا علمت يقينا أنك ستجد كل هذه الألوان في طريق حياتك, فوطّن نفسك واصمد لكلام هؤلاء ونقدهم وتشويههم وتحقيرهم, واثبت وكن كالصخرة الصامتة المهيبة تتكسر عليها حبات البرد لتثبت وجودها وقدرتها على البقاء. إنك إن أصغيت لكلام هؤلاء وتفاعلت به, وأردت أن ترضي كل أحدهم, فقد سلكت طريق المستحيل.
إنك لن تستطيع أن تغلق أفواه هؤلاء، ولن تستطيع أن تعتقل ألسنتهم, لكنك تستطيع أن تدفن نقدهم وتجنيهم بتجافيك لهم، وإهمالك لشأنهم، واطراحك لأقوالهم!. بل تستطيع أن تصب في أفواههم الخردل بزيادة فضائلك, وتربية محاسنك, وتقويم اعوجاجك. إن كنت تريد أن تكون مقبولا عند الجميع، محبوبا لدى الكل، سليما من العيوب عند العالم، فقد طلبت مستحيلا وأملت أملا بعيدا.
لكن افعل ما هو صحيح ثم أدر ظهرك لكل نقد سخيف، واعلم انك لو لم تكن تفوقهم لما تعرضت لنقدهم الآثم, فلا تتوقف في طريق رحلتك متعثرا، فإن إرضاء الناس غاية لا تدرك, ومن ذا من الناس عاقلا فكر أن يرضي الناس.
حكى الإمام الشهير عبد الرحمن بن بطة عن نفسه مع أهل زمانه فقال: عجبت من حالي في سفري وحضري مع الأقربين مني والأبعدين، والعارفين والمنكرين، فإني وجدت بمكة وخراسان وغيرهما من الأماكن أكثر من لقيت بها موافقا أو مخالفا، دعاني إلى متابعته على ما يقوله، وتصديق قوله، والشهادة له، فإن كنتُ صدقت فيما يقول, وأجزت له ذلك كما يفعله أهل هذا الزمان; سماني موافقا، وإن وقفت في حرف من قوله أو في شيء من فعله سماني مخالفا، وإن ذكرت في واحد منها أن الكتاب والسنة بخلاف ذلك وارد، سماني خارجيا، وإن قرأت عليه حديثا في التوحيد، سماني مشبها، وإن كان في الرؤية; سماني سالميا، وإن كان في الإيمان سماني مرجئا، وإن كان في الأعمال، سماني قدريا، وإن كان في المعرفة سماني كراميا، وإن كان في فضائل أبي بكر وعمر، سماني ناصبيا، وإن كان في فضائل أهل البيت سماني رافضيا، وإن سكت عن تفسير آية أو حديث فلم أجب فيهما إلا بهما، سماني ظاهريا، وإن أجبت بغيرهما، سماني باطنيا، وإن أجبت بتأويل، سماني أشعريا، وإن جحدتهما، سماني معتزليا، وإن كان في السنن مثل القراءة، سماني شفعويا، وإن كان في القنوت سماني حنفيا، وإن كان في القرآن، سماني حنبليا، وإن ذكرت رجحان ما ذهب كل واحد إليه من الأخبار إذ ليس في الحكم والحديث محاباة قالوا: طعن في تزكيتهم().
وهاهو رجل وابنه ومعهما حمار، ركب الأب وترك الابن ومشيا، فمروا على قوم، فقالوا: يا له من أب ليس فيه شفقة ولا رحمة، يركب ويترك هذا الابن المسكين يمشى وراءه!..
فما كان منه إلا أن نزل، وأركب هذا الطفل، ومشى، فمر على قوم آخرين، فقالوا: يا له من ابن عاق يترك أباه يمشي وراء الدابة وهو يركب الدابة!..
فركب الاثنان على الدابة، ومروا على قوم آخرين، فقالوا: يا لهم من فجرة حمَّلوها فوق طاقتها!..
فنزل الاثنان ومشيَا وراء الدابة، فمروا على قوم، فقالوا: حمقى مغفّلون يُسخّر الله لهم هذه الدابة، ثم يتركونها تمشي ويمشون وراءها!.
وفي الأخير, حملوا الدابة على ظهورهم ومشيا, فمروا على قوم آخرين, فضحك القوم بتعجب!, وقالوا: سبحان الله!, خلق الله الدواب لتحملنا, وهؤلاء يحملونها ().
ضحكت فقالوا ألا تحتشم ... بكيت فقالوا ألا تبتسم
بسمت فقالوا يرائي بها ... عبست فقالوا بدا ما كتم
صمت فقالوا كليل اللسان ... نطقت فقالوا كثير الكلم
حلمت فقالوا صنيع جبان ... ولو كان مقتدراً لنتقم
فأيقنت أني مهما أريد ... رضا الناس فلا بد أن أذم.