علمتني الحياة -في ظل العقيدة- أن السعادة لا تؤخذ مجانا، بل تحتاج إلى تضحية وفداء، بذل وعطاء، كرم وسخاء، فالذي يريد سعادة حياته بالزواج فإنه يدفع ثمن ذلك بالمهر، ومن يريد ثمارا يانعة في بستانه فإنه يجدّ بالتعب في حرث وسقي ذلك البستان، وهذا هو الحال مع طالب السعادة أن يبذل ما بوسعه، ويضحي بما لديه، ويدفع ثمن تلك السعادة وسيجدها باردة طيبة كشجرة طيبة تؤتي أكلها كل حين.
فهؤلاء أهل الإيمان باعوا نفوسهم وأرواحهم في سبيل هذا الدين بثمن لا يقدر بثمن, وتم البيع, وكتب العقد, وتم التوقيع.
والسلعة إذا خفي عليك قدرها, وأردت أن تعرف قيمتها, فانظر المشتري لها من هو؟، وانظر إلى الثمن المبذول فيها؟، وانظر إلى من جرى على يديه عقد الشراء؟.
فالسلعة النفس المؤمنة .. والمشتري لها هو الله -عز وجل- .. وثمنها جنات النعيم .. والسفير في هذا العقد خير خلقه من الملائكة، وأكرمهم عليه، وهو جبريل -عليه السلام-, وخير خلقه من البشر، وأكرمهم عليه، وهو محمد -صلى الله عليه وسلم- ..وصفات هذه السلعة التضحية في خدمة الدين.. وتم توثيق العقد في التوراة والإنجيل والقرآن{إِنَّ اللهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللهِ فَاسْتَبْشِرُواْ بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُم بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}().
فالمؤمن لا تخيفه قوة المادة ولا لغة الأرقام؛ فهو يقدم من ألوان التضحية، وضروب الفداء، وأنواع البذل، ما لا يصدقه الأعداء.
المؤمن لا يصرفه عن حقه وعد، ولا يثنيه عن همته وعيد، ولا ينحرف به الطمع، ولا يضله هواه، ولا تغلبه شهوة؛ فهو دائما داع إلى الخير، مقاوم للشر، آمر بالمعروف، ناه عن المنكر، هادٍ إلى الحق، فاضح للباطل؛ لئن كسر المدفع سيفه، فلن يكسر الباطل حقه.
الحصول على سعادة النفس وكل ما يسعدها في الدنيا والآخرة عمل عظيم وكبير, يحتاج إلى فكر مستمر, وعمل دائب, وهم مذيب, وسير الأقدام, وإيلام الأبدان, وبذل الأموال, والتضحية بالأنفس والأوقات والشهوات, والصبر على المشاق, وتحمل الأذى, وذلك كله من أجل الحصول على سعادة الدارين.
ما نال مرتبة الخلـــــــــــــود ... بغيرِ تَضْــــحية رضــــــــــيَّة
عاشت نفوسٌ في سبيلِ ... بلادها ذهبت ضحيَّة.
ولقد نظرت في تاريخ البشرية فرأيت عجبا عجابا، رأيت بشر وليسوا ببشر, باعوا الدنيا فضحّوا بها في سبيل الله, ثبتوا ثبات الجبال، وحلقوا بهمههم وناطحوا الثريا، فعاشوا عيشة السعادة فلله درّهم.
هذا الخليل إبراهيم ,كسر الأصنام حتى لا يعبد غير الله، وجادل النمرود حتى لا معبود غير الله، وترك أهله في صحراء بأمر من الله، وضحى بطعامه لضيوف الله، وتقرب بابنه حتى ينفذ أمر الله، وعرض نفسه للنار تضحية وبذلا في سبيل الله, فاستحق لقب الوفاء في دين الله.
وهذا رسول الله -صلى الله عليه وسلم-, يؤذيه المشركون واليهود والنصارى أشد الإيذاء, ويذوق صنوف البلاء، من تكذيب ومجابهة ورد واستهزاء وسخرية وسب وشتم واتهام بالجنون والكهانة والشعر والسحر والافتراء, وضعوا له الأذى على رأسه، وأرادوا خنقه، وخططوا لقتله، وفي كل حالة يطرد ويحارب, ويقتل أصحابه, وينكّل بأتباعه, ويتهم في زوجته، ويذوق أصناف النكبات، ويهدد بالغارات، ويمر بأزمات, ويجوع ويفتقر، ويجرح، وتكسر ثنيته، ويشج رأسه، ويحاصر في الشعب حتى يأكل هو وأصحابه أوراق الشجر، ويغلب في أحُد, ويمزق عمه حمزة, ويتعرض لعدة محاولات اغتيال، ولا يجد من يناصره, ويذوق الغصص ويتجرع كأس المعاناة, ويزلزل مع أصحابه زلزالا شديدا, وتبلغ قلوبهم الحناجر, وتعكس مقاصده أحيانا، ويبتلى بتيه الجبابرة, وصلف المتكبرين, وسوء أدب الأعراب, وعجب الأغنياء. ومع كل هذا يدعي إلى الخير، ويحذّر من الشر، ويأمر بالمعروف وينهي عن المنكر، يصوم النهار، يقوم الليل حتى تتفطر قدماه، يطعم مسكينا، يروي ظمآنا، يكسي عاريا، يزوج عازبا، يسعد حزينا، يرشد حيرانا، يهدي ضالا، ينصر مظلوما، يقصم ظالما، يعفي عن المخطئ, ويقبل المزاح، ويغضب إذا انتهكت الحرمات.
حياته كلها إلا تضحية من صبر إلى غزوة إلى فعل خير إلى بر إلى صلاة وقراءة قرآن وصدقة وإنفاق. فداك أبي وأمي يا رسول الله!!.
وهذا أبا بكر –الصدّيق-, صدق فصدقه الله، فسخر جوارحه كلها لله، لسانه يلهث بذكر الله، وقلبه ينبض بتوحيد الله، وعيناه تحرس في سبيل الله، وظهره حاملا لهموم عباد الله، وصدره دفاعا عن رسول الله، ويداه بذلا وكرما وإنفاقا في مرضات الله، ورجلاه يخطي بهما لملاقاة أعداء الله.
وهذا عمر –الفاروق-, فرق بين الحق والباطل، غرغرت بطنه جوعا فلم يطعمها ليشبع المسلمون، ولبس الثياب المرقع لتعلو شوكة الدين، وخاض المعارق لينتصر المسلمون، يسهر الليل ليتفقد أحوال المساكين، حياته كلها إلا إخلاص وإيمان وورع وزهد وتقوى وعدل وحكمة ليرضي رب العالمين، شجاعا مقداما عازما قويا تخافه الشياطين، يأمر المعروف وينكر المنكر لا يخاف لومة اللأئمين، سخر حياته ووهب نفسه وضحى بها لله رب العالمين.
وهذا عثمان -ذو النورين-, أتم الله له نوره، فكان الحياء صفته الملبوسة، ولم يحب الدنيا لأنها مذمومة، فكان النهار صلاته وصومه، والقرآن ليله ونومه، والتسبيح والتمجيد في ركوعه، والدعاء والتضرع سجوده، سخر كل ماله وكنوزه لجيش العسرة وحفر بئر رومة، جاهد في الله بكل شجاعة وقوة، صبر وثبت ونال الأذى والمشقة، حتى قتل وزهقت نفسه إلى الله مظلومة.
وهذا علي ابن أبي طالب, أحبه الرحمن، فأخلص قلبه للتوحيد وحب الرحمن، ودافع عن رسول الأنام، فصلى وأنفق وبذل وصام النهار، ودعا ورجا واستغفر في الليل وقام، وسخر أيامه ولياليه وساعاته في خدمة الإسلام.
حروف اسمه تكشف تضحايته.. عمره وعلمه وعونه وعتاده عونا للإسلام والمسلمين.. ليث لا يخاف لا يجبن لا يزحف لا يخاف لومة اللائمين.. يغزو يقاتل يضحي يخيف المشركين، يخترق الصفوف، يقطع الرقاب، يفصل الأعناق، يقدم كالأسد.
وهذا عبد الرحمن بن عوف, أحد الثمانية السابقين إلى الإسلام يقول عن أمواله وتجاراته وقافلاته يقول لعائشة: أما إني أشهدك أن هذه القافلة بأحمالها، وأقتابها، وأحلاسها، في سبيل الله -عز وجل-().
وهذا أبو هريرة, ذاكرة عقله التي لا تقاس بالجيجا والتي لم يملؤها بغير قول الله وقول رسول الله, فقضى حياته كلها في الحفظ والتحديث, ولم يترك مصاحبة رسول الله قط! إلا عند نومه -عليه الصلاة والسلام- ومع كل هذا الجهد والتضحية بالوقت للعلم, إلا أنه ذاق مرارة العيش فقد كان الجوع يعض أمعاءه فيشد على بطنه حجرا ويعتصر كبده بيديه، ويسقط في المسجد وهو يتلوى حتى يظن بعض أصحابه أن به صرعا وما هو بمصروع.
وهذا أبو عبيدة الجراح, من السابقين إلى الإسلام الملقب بأمين هذه الأمة, لازم الأمانة ولم يناقضها, في غزوة أحُد جعل صدره دفاعا عن رسول الله -عليه الصلاة والسلام- فاشتد الوطيس في المعركة, فرأى حلقتين من حلق المغفر الذي يضعه الرسول فوق رأسه قد دخانا في وجنتي النبي، فلم يطق صبرا.. واقترب يقبض بثناياه على حلقة منهما حتى نزعها من وجنة الرسول، فسقطت ثنيه، ثم نزع الحلقة الأخرى، فسقطت ثنيه الثانية حتى كان بين الناس أثرما.
وهذا سعد ابن أبي وقاص, يقول: يا رسول الله! فو الذى بعثك بالحق لو استعرضت بنا البحر فخضته لخضناه معك ما تخلف منا رجل واحد().
وهذا أنس ابن النظر, يقول: فما تصنعون بالحياة بعد رسول الله؟ قوموا فموتوا على ما مات عليه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- واندفع في صفوف القتال، فلقي سعد بن معاذ، فقال أنس: يا سعد والله إني لأجد ريح الجنة دون أحُد، وانطلق في صفوف القتال فقاتل حتى قتل().
ولك أن تنظر في الأسرة التي ضحت بحياتها, وذاقت ألوان العذاب, ومرارة العيش, وسوء المعاملة من أعداء الله. إنه عمار ووالده وأمه -رضي الله عنهم جميعا-, كانوا يُعذبون في رمضاء الصحراء في شدة اللهيب, ويُرموا بالحجارة الحارة, وصبروا وكابدوا المرارة, وثبتوا ثبوت الجبال ولم يتراجعوا عن ملة الإسلام طرف عين.
وهذا بلال ابن رباح, أسود اللون, أبيض القلب, نقي السريرة, خالي من الشوائب, يترك للبشرية كلها درسا في فن احترام الضمير، والدفاع عن حريته وسيادته.
لقد كانوا يخرجون به في الظهيرة التي تتحول الصحراء فيها إلى جهنم قاتلة، فيطرحونه على حصاها الملتهب وهو عريان، ثم يأتون بحجر مستعر كالحميم ينقله من مكانه بضعة رجال، ويلقون به فوق جسده وصدره، وهو ثابت لا يتزعزع ويردد: أحد أحد.
وهذا عمير بن الحمام, يخرج تمرات ليتقوى بهن على القتال، فأكل تمرة، ثم قال لنفسه: والله لئن حييت حتى آكل هذه التمرات إنها لحياة طويلة، ويلقي بالتمرات ويندفع في صفوف القتال فيقتل().
وهذا صهيب بن سنان, قائلا:
يا معشر قريش!! لقد علمتم أني من أرماكم رجلا.. وأيم والله لا تصلون إليّ حتى أرمي كل سهم معي في كنانتي, ثم أضربكم بسيفي حتى لا يبقى في يدي منه شيء، فأقدموا إن شئتم..
وان شئتم دللتكم على مالي. فأعطاهم كل ماله حتى يتركوه ويدرك صاحباه رسول الله والصدّيق.
وهذا خالد ابن الوليد, ما من موضع أصبع على جسده إلا وفيها رمية سهم, وطعنة سيف, ومع هذا يقول: لا نامت أعين الجبناء().
وهذا حبيب بن زيد, حامل الرسالة إلى مسيلمة. يقول له مسيلمة: أتشهد أني رسول الله?! فيجيب بلسان التضحية والفداء: إن في أذني صمم لا أسمع ما تقول. فيأمر مسيلمة جلاده بقطع جسده قطعة قطعة، وبضعة بضعة، وعضوا عضوا().
وأمعن النظر في تضحية هؤلاء الطفلين في ساحة القتال وغبار المعركة, إنهما معاذ بن عمرو بن الجموح ومعاذ بن عفراء, يخترقا صفوف المعركة, والرقاب تتقطع, والسيوف تلمع, والدماء تسيل، ويبحثا عن أبي جهل, ويقول كل واحد منهما; لقد سمعت أنه يسب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ولقد عاهدت الله إن رأيته أن أقتله أو أموت دونه، فعرفانه من بين المقاتلين فانقضا عليه كالصقرين فقتلاه.
إنهم بشر وليسوا ببشر, صدقوا ما عاهدوا الله عليه فصدقهم{مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا}()..