لا تتعجب من هذا العنوان فهو درب من دروب سعادتك في الدنيا والآخرة.
إني رأيت أن أضعه لك كدرب من دروب السعادة لأنه يستحق ذلك، كيف لا يستحق ذلك وأكثر الناس اليوم يريد السعادة وهو يسخر عقله في أماكن لا يُستخدم العقل فيها، فيسقط في درك الشقاء، وشماتة الأعداء، فيستقبل الهموم لقلبه، والضيق لصدره، والوحشة لنفسه، والاختناق لروحه، فيظل متسائل بين كيف?!! ولماذا?!!{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} ().
إن استخدام العقول في مواطن العلم حزن لا ينتهي، وهمٌ سرمدي، وخسارة فادحة في الدنيا والآخرة.
فإن أردت السعادة فانظر في موطن العلم بعلم وقل سمعنا وأطعنا.
هذا رجل قتل تسعا وتسعين رجلا، ففكرت نفسه بالتوبة، فسأل عن أعلم أهل الأرض فدلوه على راهب، فجاءه وقصّ عليه القصص، فانبهر هذا الراهب وغضب، واستخدم العقل في مكان يطلب العلم، فقال بعقله لا بعلمه: ليس لك توبة. فقتله هذا الرجل وأتمّ به المائة().... ثم بحث مجددا عن أعلم أهل الأرض فدلوه على عالم، فجاءه وقصّ عليه القصص، فما كان من هذا العالم إلا أن علم أن الموطن موطن علم فقال بعلمه لا بعقله: ومن يحول بينك وبين التوبة!? وبابها مفتوح، ورحمة الله واسعة، ففتح قلب هذا القاتل، وقذف في قلبه حب التوبة فتاب فغفر الله له.. الأول: لم يسمح له عقله بوجود توبة لمن يقتل هذا الجمع الكبير من البشر.. والثاني: وجد العلم يخبر بتوبة العبد مهما عظمت ذنوبه, ورحمة الله أوسع من ذنوب العبد..فانظر الفرق بين من يستخدم عقله في موطن العلم, فيكون أول ضحايا هذا الاستخدام قتيلا.. وبين من يستخدم علمه في موطن العلم فيحيي نفسه ويحيي معه نفوس كادت أن تزيغ..
إن استخدام العقل في موطن العلم يعني الهلاك القاتل، ولنا في رسول الله أسوة حسنة فقد كان قوي التركيز على هذه الدقيقة فهو الرحيم صاحب القلب الرقيق -بأبي هو وأمي-، ولكن حين يكون الموقف موقف حزم يتطلب العلم فهو يكون شديدا قويا وحين يكون الموطن موطن عقل فهو يكون رحيما رقيقا رؤوفا، جاءه أسامة يشفع بعاطفته في حدٍ من حدود الله وهو أمر يتطلب علما, وليس عاطفة وعقلا, فقال له رسول -صلى الله عليه وسلم-: ((أتشفع في حد من حدود الله?!. ثم يقول: لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها))().
إن أمور العلم التي تتطلب علما وليس عقلا تضر صاحبها إن استخدم عقله.. فقد هلك من استخدم العاطفة والعقل في صفات الله، وكيفية نزوله إلى سماء الدنيا، وكيفية استواءه على العرش، وفي قصة الخضر مع موسى -عليهما السلام- في تخريب السفينة عمدا، وقتل الغلام البريء، وإقامة الجدار الهاوي، كل هذه لا تحتاج إلى عقل بل أن نقول فيها سمعنا وأطعنا.
حذاري، حذاري لا تشغل عقلك بمثل هذه التي تتطلب علم..
وكذلك العكس لا تستخدم العلم في موطن العقل والعاطفة, فحينما تكون داعية وخطيب وموجه إلى الخير وآمر بالمعروف وناهٍ عن المنكر، ففي هذه الحالات يتطلب منك استخدام العقل والعاطفة قبل العلم وإلا لشرد الناس عنك، ولم يلقوا لك أي قيمة واعتبار، كيف لا يكون ذلك وربنا قد أخبرنا بهذا الأسلوب الجميل فقال: {وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ}()..
{فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا}()فالقائل ليس بأفضل من موسى وهارون؛ والفاجر ليس بأخبث من فرعون، وقد أمرهما الله –تعالى- باستخدام لغة العقول والخطاب الذي يناسب المقام.
فالأمر هنا يحتاج إلى عاطفة قبل العلم، انظر إلى نبي الله إبراهيم -عليه السلام-، حين رأى الأصنام تُعبد من دون الله فغار على دين الله أشد الغيرة، وأراد تغيير المنكر بقوة، فحطم الأصنام عن بكرة أبيها، فما هي إلا أيام إلا وعادت المياة إلى مجاريها، وعادت الأصنام إلى شاكلتها, وبقيت كما كانت سابقا، ولم يتمكن من طردها من قلوب البشرية العوجاء التي تتطلب التأني والتريض في المعاملة؛ والسبب واضح لأن الموطن موطن هدوء وعاطفة ولين وتدرج ورويدا رويدا..
وانظر في الشق الآخر محمد -عليه الصلاة والسلام- دخل مكة وفيها ثلاث مائة وستون صنما يُعبد، فلم يستعجل في تحطيمها, بل أقبل على القلوب بعاطفة جذابة، وكسب قلوب البشر بطريقة ليّنة، فاستطاع أن يهدم الأصنام من قلوب البشرية, واستطاع أن يجعل البشرية التي كانت تعبد الأصنام هي نفسها تزيح بأيديها الأصنام تكسيرا وهدما..
فانظر الفرق بينهما مع أن كلاهما على صواب ولكن هذا محى الشرك من القلوب ومن الواقع المحسوس بطريقته الجذابة، بينما الآخر بقي أثر الشرك في القلوب منحوتا..
إن لدينا لغة تسمى: لغة العقول, فقد وضع دين الإسلام العقل موضعا عظيما فجعل طريقه هداية للناس بمدى كمال عقولهم فلا يخاطب العاقل بما يخاطب به الجاهل, ولا يخاطب ذوو العقول الخفيفة بما يخاطب به العقلاء ذوو العقل الكامل(( ما أنت بمحدِّثٍ قومًا حديثًا لا تبلغُه عقولُهم، إلَّا كان لبعضهم فتنة)) () يراعي الرسول -صلى الله عليه وسلم- مستوى العقول رعاية عظيمة, فلا يخاطب الأذكياء بما يخاطب به الأغنياء، ولا يخاطب الخاصة بما يخاطب به العامة، فالذكي يفهم الشيء بالإشارة، والغبي ربما لا يفهمه إلا بعد أن يكرر له عدة مرات، الواجب عليك أن تغرف لكل أحد من نهره, وتشْرِبه من كأسه, وتكِلْ لكل عبد بمعيار عقله, وزنْ له بميزان فهمه, حتى تسلم منه وينتفع بك, وضعْ كل شيء في موضعه الصحيح.
قال ابن الجوزي: فالله الله أن تحدث مخلوقا من العوام بما لا يحتمله دون احتيال وتلطف؛ فإنه لا يزول ما في نفسه().