في الحديث: ((العجلة من الشيطان))(). التمهل من الله والعجلة من دروس إبليس, فهو على وجه العقل قريبٌ من الحق صحيحٌ في العقل، وذلك أن التمهل كله من الله –تعالى-, أي بإذنه ودلالته وإرشاده، والعجلة من الشيطان أي بتسويله وتزيينه ومراده، لأنّ الشيطان يتوقّع زلتك، ويتمنّى غرّتك، لكنه لا يجد ذلك في تمهلك وتثبتك وأناتك، فهو يتمنّى ذلك في عجلتك؛ فحثّ الإسلام على التمهل لأن التّوقّي معه، والسلامة مع التوقّي، ونهى عن العجلة لأن الزّلّة مع العجلة والهلاك مع العثرة.
فالعاقل لا يفعل أمرا إلا إذا نظر في عواقبه، وتبصر أبعاده ومراميه، لا يتعجل الخطأ، ولا يستبق الأحداث, ولا يشرع في الحكم على الأمور، بل يزن الأشياء بميزان دقيق، ويقدر المواقف، بنظرة ثاقبة فاحصة، وخطوة متانية تحسب كل حساب. فكن أفضل من أن تخدع، وأعقل من أن تخدع.
وكل أناة في المواطن سودد ... ولا كأناة من قدير محكم
وما الرأي إلا بعد طول تثبت ... ولا الحزم إلا بعد طول تلوّم
قال بعض الحكماء: إياك والعجلة فإنّ العرب كانت تكنيها أمّ الندامة؛ لأنّ صاحبها يقول قبل أن يعلم، ويجيب قبل أن يفهم، ويعزم قبل أن يفكّر، ويقطع قبل أن يقدّر، ويحمد قبل أن يجرّب، ويذمّ قبل أن يخبر، ولن يصحب هذه الصفة أحد إلّا صحب الندامة، واعتزل السلامة().
قد يدرك المتأنّي بعض حاجته ... وقد يكون مع المستعجل الزلل.
اعلم –أخي- أن التمهل مفتاح النجاح, والتريّث دليل الفلاح, فلا تطلب المساء وأنت في الصباح, والتأني طريق السلامة, والعجلة مفتاح الندامة, وتكنّى بأُمّ الندامة, والتمهل نتائجه لذيذة, والعجلة عواقبها وخيمة, ومن تأنّ أدرك ما تمنى, ومن تعجّل ندم وخسر.. الله يأمرك بسارع وبادر ولم يأمرك بالعجل, ففرق بينهما لمن نظر, كالفرق بين الأرض والقمر.. سارع وبادر إلى العمل, ولا تستعجل نضوج الثمر قبل العمل.. كمن يريد أن يزرع اليوم ويحصد غدا، بل يريد أن يغرس في الصباح ويجني في المساء ثمرة العمل, وهذا محال في العقل، لا بد من صبر وترو على البذرة حتى تنبت، وعلى النبتة حتى تورق، وعلى الورقة حتى تزهر، وعلى الزهرة حتى تثمر، وعلى الثمرة حتى تنضج، ثم بادر إلى قطفها قبل أن تفسد، ومسافة ميل تبدأ بخطوة واحدة، ومن سارع إلى البدء في الطريق وصل.. رويدا رويدا كالمطر إذا نزل, يبدأ قطرة ثم قطرات ثم سيل فيض ينحدر, وليس كريح هوجاء تدمر قبل أن تصل.
ولترقَّ شيئاً فشيئاً صاعداً درجاً ... من البناء رصينا واحذر العجلا
فكم عجول كبا من ضعف رؤيته ... وذي أناة أصاب الرشد والأملا.
فصاحب الهمة, يستعمل التأني ولا يتعجل, ولا يلقي بنفسه في الهلاك, إن جاءه الخبر تريث, وإن أتته الشائعة تأكّد, وإن رأى سرابا تبصّر, وإن أراد المضي يتوثّق منه قبل حركته، ويتقدّم في حسم أسبابه، وفي قطع حباله، فإذا تأنى وتمهّل, وتأكد وتبصّر, وتمكن واستفحل, وأذكى ناره واشتعل، ثم لقي من صاحبه قدرة، ومن أعوانه معونة, ومن أهله نصيحة, ومن أهل الخبرة مشورة, واطمئن قلبه للسير والإمضاء, فليبادر متوكلا على رب السماء{فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ}().
وملاك التحيل في بلوغ الأماني ... رفض العجلة واستعمال التواني.
هذا رسولنا -عليه الصلاة والسلام- الذي نهانا عن العجلة, وأمرنا بالتمهل والتأني, يبدأ دعوته بتوحيد الله, والقوم يعبدون ثلاث مائة وستون صنما, أمام عينه -عليه الصلاة والسلام-, فلم يستعجل في تحطيم الأصنام من الواقع, بل بادر بتصفية الشرك من قلوب البشرية, وظل يراها وهو يكره أن يراها, لكنه أراد تعليم البشرية عدم العجلة, فالتأني تبلغ به المجد, والعجلة ترمي بك قاع الأرض, فظل يصفي الأصنام من القلوب ثلاث عشرة سنة, حتى بلغ مراده, ووصل إلى غايته, وصاب الهدف, وحقق الغاية, فأصبح عبّاد الأصنام يكسرونها بأيديهم, ويطئوها بأقدامهم. إنها الطريقة إلى الوصول إلى الغاية.
لكل شيء في الحياة وقته ... وغاية المستعجــلين فـــوته.
كتب عمرو بن العاص إلى معاوية يعاتبه في التأني، فكتب إليه معاوية: أما بعد، فإن التفهم في الخير زيادة ورشد، وان المتثبت مصيب والعجل مخطىء، وإن لم ينفعه الرفق ضرّه الخرق، ومن لم تعظه التجارب لم يدرك المعالي، ولا يبلغ الرجل أعلى المبالغ حتى يغلب حلمه جهله، والعاقل سليم من الزلل بالتثبت والأناة وترك العجلة، ولا يزال العجل يجتني ثمرة الندم().
تأنّ في الشيء إذا رمته ... لتعرف الرشد من الغيّ
لا تتبعن كل دخان ترى ... فالنار قد توقد للكيّ
وقس على الشيء بأشكاله ... يدلك الشيء على الشيّء.
فمن تدبر المخلوقات كلها وعرف أن الله خلقها شيئا فشيئا بحسب حكمته, ورفقه مع قدرته على خلقها دفعة واحدة، وجب عليه أن يكون متمهلا في أقواله وأفعاله, وترك العجلة في أموره وجميع أحواله, لأن العجلة من الشيطان، فمن تعجل في أموره وأحواله قل ما تفارقه الخيبة والخسران، ومن تدبر الشرائع كيف أتى بها الله شيئا بعد شيء شهد من ذلك العجب العجيب. الصلاة بتمهل وخشوع.. والصيام باحتساب وصبر.. والزكاة تريض وبحث عن أهل الحاجة والفقر.. والدين كله سهل ويسر.
ولا تستعجل في فهم الموضوع, بأني أهتف لك بالخلود والجمود, والكسل والرقود, محتجا بالموضوع الموجود, كلا ولن!, فلكل مقال مقام, وخير عباد الله من فهم المقال, فوضعه في أفضل مقام, فالعجلة مذمومة في مكان, والمسارعة محمودة في كل مكان وزمان, والفطين من تكفيه إشارة الكلام, وقد أحسن حاتم الأصمّ حيث قال: العجلة من الشيطان إلا في خمس خصال، فإنها من سنّة خير الأنام: إطعام الضّيف إذا حلّ، وتجهيز الميّت إذا رحل، وتزويج البكر إذا أدركت، وقضاء الدّيون إذا حلت ووجب، والتّوبة من الذّنب إذا وقع().