القمة مرهقة؛ تكلف صاحبها عناء الصعود، وشق الصفوف، وبذل المجهود، وموطأ الأرض تدوسه أقدام الأسود والقرود واليهود، والبحر الواسع الأمواج فيه تلتطم؛ لكنها تنفرج عن حلية الخرد الخود.
وما قدر اللآلئ وهي در.. إذا لم ينفلق عنها المحار.
من المشاهد المعقول الملموس المحسوس؛ بل والمنقول، أن النعيم لا يدرك بالنعيم، والنار تحرق وتنضج، وحيث يوجد النور يوجد الدخان، ولا ينال الخبز حتى يسيل العرق، ويعظم الجهد والنصب والأرق، والسم أحيانا يعمل عمل الترياق.
ومن يخطب الحسناء لم يغله المهر.
ودون الشهد إبر النحل، ومن رام اللآلئ زج بنفسه البحر، واللآلئ تحطم لترفع في التاج والنحر، وما العز إلا تحت ثوب الكد.
نعيم الأشواق بعد ذوق مر الأخطار في القفار، بقدر العنا تنال المنى، وربما تصح الأبدان بالأدواء، ولا يدرك الشرف إلا بالكلف:
ولا يفرس الليث الطلى وهو رابض.
إن عزمت فبادر، وإن هممت فثابر، واعلم أنه لا يدرك المفاخر، من كان في الصف الآخر.
لن يدرك البطال منازل الأبطال، وعند تقلب الأحوال تعرف جواهر الرجال.
والسيل حرب للمكان العالي.
ولا تطلب السلعة الغالية بالثمن التافه.
والمجد لا يشرى بقول كاذب إن كنت تبغي المجد يوما فانصب. فالمهمة تحتاج إلى همة، ولن تنال المجد حتى تلعق الصبر، فالإنسان يحتاج إلى أن يخوض الأوحال، ويقطع البحار، ويصعد الجبال، ويجوع ويظمأ ويتعرى ويؤذى، هذه سنة الله في خلقه يصهر الناس في المحن، فإذا صمدوا أخرجهم ذهبا إبريزا، ثم حملتهم الأمة بعد ذلك فوق رأسها.
ولذة الراحة لا تنال بالراحة، والجنة حفت بالمكاره، ولا يدرك السادة من لزم الوسادة، والموت في سبيل الله سعادة وشهادة.
جهاد المؤمنين لهم حياة إلا إن الحياة هي الجهاد{أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ}() يقول ابن القيم: المصالح والخيرات واللذات والكمالات كلها لا تنال إلا بحظ من المشقة, ولا يعبر إليها إلا على جسر من التعب, وقد أجمع عقلاء كل أمة على: أن النعيم لا يدرك بالنعيم, وإن من آثر الراحة فاتته الراحة, وإن بحسب ركوب الأهوال واحتمال المشاق تكون الفرحة واللذة, فلا فرحة لمن لا هم له! ولا لذة لمن لا صبر له! ولا نعيم لمن لا شقاء له! ولا راحة لمن لا تعب له!, بل إذا تعب العبد قليلا استراح طويلا, وإذا تحمل مشقة الصبر ساعة قاده لحياة الأبد, وكل ما فيه أهل النعيم المقيم فهو صبر ساعة والله المستعان!, ولا قوة إلا بالله, وكلما كانت النفوس أشرف, والهمة أعلا, كان تعب البدن أوفر وحظه من الراحة().
ما لؤلؤ البحر ولا مرجانه... إلا وراء الهول من عبابه
من يعشق العلياء يلق عندها... ما لقي المحب من أحبابه.
فلا فرح لمن لا هم له، ولا لذة لمن لا صبر له، ولا نعيم لمن لا شقاء له، ولا راحة لمن لا تعب له، بل إذا تعب العبد قليلا استراح طويلا، وإذا تحمل مشقة الصبر ساعة؛ قاده ذلك لسعادة الأبد، وكل ما فيه أهل النعيم المقيم إنما هو صبر ساعة.
على قدر أهل العزم تأتي العزائم ... وتأتي على قدر الكريم الكرائم
ويكبر في عين الصغير صغيرها ... وتصغر في عين العظيم العظائم.
نعم إن النعيم لا يدرك بالنعيم, وأن من آثر الراحة فاتته الراحة, وبحسب الجد والاجتهاد وتحمل المشقة تكون اللذة والفرحة, فمن جد وجد, ومن طلب العلى سهر الليالي.
لا تحسبن المجد تمرا أنت آكله...لن تبلغ المجد حتى تلعق الصبرا.
فالصلاة خير من النوم، والتجلد خير من التبلد، والمنية خير من الدنية، فكن رجلا رجله في الثراء وقامة همته في الثريا, فإن إراقة ماء الحياة دون إراقة ماء المحيا{مَّن كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاء لِمَن نُّرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُوماً مَّدْحُوراً وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُوراً}()لقد كان سيد المجتهدين وإمام المرسلين يجد ويجتهد في طلب الله ورضوانه -جل في علاه-, فكان يقوم الليل كله إلا قليلا، حتى تورمت قدماه, ويقول: ((أفلا أكون عبدا شكورا)) ().
والصحابة -رضوان الله عليهم-، في غزوة الرقاع, فإذا الستة منهم يركبون بعيرا واحدا، حتى نقبت أقدامهم، وسقطت أظفارهم؛ في يوم صائف ولا نعال، فجمعوا الخرق على أرجلهم يتقون بها الحر والصخر، فسميت الغزاة بـ (ذات الرقاع).
إنها النفوس الشريفة لا ترضى من الأشياء إلا بأعلاها، ولو كان في ذلك أذاها، إذ النعيم لا يدرك بالنعيم، ومن يجد يجد، والنفس إن تعبت فربما راحة جاءت من التعب.
خرجوا يوم بدر لا يريدون القتال، إنما يريدون الغنيمة، فإذا الغنيمة غير الغنيمة، فاشتدت العزيمة بعد المشورة يوم قال المصطفى -صلى الله عليه وسلم-: ((أشيروا علي أيها الناس؟)) فإذا العزيمة في أوجها وفي قوتها، فإذا بقائل المهاجرين يقول: امض لما أراك الله يا رسول الله!، والله لا نقول كما قالت بنو إسرائيل لموسى: اذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون، ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون، فوالذي بعثك بالحق لو سرت بنا إلى برك الغماد لجالدنا معك من دونه حتى تبلغه.
وإذا بقائل الأنصار يوقظ المشاعر، ويدفع المتردد إلى الإقدام، وينبه الغافل إلى النصرة ولو كان الثمن النفوس، فيقول: والله لكأنك تريدنا يا رسول الله؟ قال: أجل! قال: فقد آمنا بك وصدقناك، وشهدنا أن ما جئت به هو الحق، وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا على السمع والطاعة، فصل حبال من شئت، واقطع حبال من شئت، وسالم من شئت، وعاد من شئت، وخذ من أموالنا ما شئت، وأعطنا ما شئت، وما أخذت أحب إلينا مما تركت، وما أمرت به من أمر فأمرنا تبع لأمرك، فامض يا رسول الله لما أردت، فنحن معك ما تخلف منا رجل واحد، وما نكره أن تلقى بنا عدونا غدا، إنا لصبر في الحرب، صدق عند اللقاء، ولعل الله يريك منا ما تقر به عينك، فسر بنا على بركة الله.
وتنفرج أسارير رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن مثل المذهبة، ويقول: ((سيروا وأبشروا، فإن الله وعدني إحدى الطائفتين، والله لكأني أنظر إلى مصارع القوم)) ().
خرجوا لغنيمة دنيا، فأصابوا الدنيا والأخرى. أسود جياع إذا ما وثبوا وثبوا.
عش ساعة في لجج البحار ...ومت شهيد الحق في التيار..
أحب احتراقي بنار اشتياقي ...ولا أرتضي عيشة الخاملين.
النعيم لا يدرك بالنعيم. إنهم لا يعيشون لأنفسهم، إن الذي يعيش لنفسه، قد يعيش مستريحا، لكنه يعيش حقيرا ويموت حقيرا، أما من تحمل عبء تعبيد الناس لله رب العالمين، وإخراجهم من الظلمات إلى النور، فماله وللنوم. وماله وللراحة. ماله وللفراش الدافئ، والعيش الهادئ، والمتاع المريح، وقد تهيأ للسباق، ورفعت له أعلام السعادة؟.
لما أدرك الصحب الكرام الأعلام أن النعيم لا يدرك بالنعيم؛ استعلوا على جواذب الأرض، فعزوا وبزوا، كالمصابيح ما على أحدها أن يتألق بنور غيره ما دام في كل مصباح زيته، نصروا بالرعب، وجاوزا الشهب، وتحدوا الصعاب، وناطحوا الثريا، أما قلوبهم ونفوسهم فلقوة إيمانهم كانت في غاية النعيم؛ حيث خولطت بشاشتها بالإيمان، فهم سادة الصابرين في الضراء، الشاكرين في السراء، كيف وهم يتلمحون ويرجون ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر!؟.
فالمؤمن السعيد هو من ناطح الثريا بهمته، واستغل الفرصة لنيل النعيم الذي لا ينفد، فتراه طاهرا تقيا نقيا، إن كان في الحرب فهو في صولته كأسد الشرى، وفي السلم في وداعته على أوليائه كغزال الحمى، يجمع بين حلاوة العسل لأوليائه، ومرارة الحنظل لأعدائه.
إن تكلم كان رقيقا رفيقا، وإن جد في الطلب كان شديدا حثيثا، وكان مع ذلك عفيفا نزيها آماله ومقاصده جليلة، ومع ذا غني القلب في الفقر, فقير الجسم في الغنى, غيور في العسر, كريم في اليسر, يظمأ إن بدا له في الماء منة، ويموت جوعا إن رأى في الرزق ذلة.
فإن المال قد يأتي ويمضي... وأنت وما ملكت إلى ارتحال.
إن قابل في سيره صخورا وجبالا كان شلالا، وإن مرّ على الحدائق كان عذبا سلسالا، يجمع بين جلال إيمان الصديق وحزم عمر، وحياء عثمان، وشجاعة وقوة علي، وصدق سلمان، وأمانة أبي عبيدة.
فكن مثل الصحابة أهل دنيا وآخرة وعباد وغزا, كالشمس إذا غربت في جهة أشرقت في أخرى، فهي لا تزال مضيئة طالعة، تغشى البلاد شرقا وغربا، موقن أن النعيم لا يدرك بالنعيم.
فشد الهمة، وقرب المطية، ولا تخش لذع الهواجر، ولو كنت في شهري ناجر، ولا يهولنك بعد الشقة، وخيال المشقة، فالنعيم لا يدرك إلا بحظ من المشقة.
فانهض بإقدام على الأقدام... إن كنت للعلياء ذا مرام
شقوا الزحام إلى العليا واقتحموا... أخطارها إنما العليا أخطار
شقوا لتحيوا حياة العز أو تردوا... حوض الردى فالردى يحمى به العار.
إذا لم تمض في وقت الحر الشديد، فستضطر إلى المضي في البرد الشديد، فابدأ المسير إلى الله! والنعيم لا يدرك بالنعيم.